جائزة الملك فيصل..

بصمة عالمية خالدة.

حين أُعلِنَ عن فوز البروفيسور السعودي عمر ياغي بجائزة نوبل في الكيمياء لعام 2025، لم يكن الحدث مجرد انتصار علمي جديد للمملكة والعرب، بل كان تذكيرًا بسبقٍ سعوديٍّ أصيلٍ حمل ملامحه قبل عقدٍ من الزمن، يوم مُنِحَت جائزة الملك فيصل العالمية هذا العالم المرموق تقديرها عام 2015، في إشارة مبكرة إلى عبقريته الاستثنائية وإسهاماته البعيدة الأثر. ذلك الإعلان أعاد إلى الأذهان مكانة الجائزة السعودية التي ما فتئت تُثبت عامًا بعد عام أنّها ليست تكريمًا لاحقًا للمنجز، بل استشرافٌ مبكر للعبقرية الإنسانية، ومنبرٌ عالميٌّ يتقدّم العالم في اكتشاف العقول التي ستصنع المستقبل. ففي سجلها الممتد منذ أكثر من أربعة عقود تتجلّى الريادة، إذ سبقت جائزة الملك فيصل العالمية نظيرتها نوبل في تكريم نخبة من العلماء الذين غيّروا مسار المعرفة البشرية، لتغدو شاهدًا على دقّة الاختيار وموثوقية التكريم، ومرآةً ناصعةً لرسالة المملكة في دعم العلم والإنسانية معًا. منذ أن انطلقت جائزة الملك فيصل العالمية في عام 1979، وهي ترسم مسارًا مختلفًا لتكريم العلم والفكر والإنسان. جاءت الجائزة ثمرة رؤية حضارية من المملكة تُدرك أن الحضارة الحقة لا تقوم إلا على قاعدة العلم والمعرفة، وأن التكريم ليس غاية في ذاته، بل رسالة في بناء المستقبل. وقد اتخذت من دقّة المعايير وصرامة التحكيم أساسًا لتكون نموذجًا فريدًا في النزاهة والموضوعية على مستوى الجوائز الدولية. تُمنح الجائزة في خمسة فروع تجمع بين خدمة الدين والعلم والإنسانية؛ هي: خدمة الإسلام تقديرًا للجهود الريادية في نصرة قضايا الأمة، والدراسات الإسلامية لما يُقدَّم من بحوث أصيلة في الفكر والفقه، واللغة العربية والأدب احتفاءً بجهود حفظ اللغة وتطويرها، والطب لمن أحدثوا اكتشافات فارقة في صحة الإنسان، والعلوم بفروعها الدقيقة من فيزياء وكيمياء ورياضيات وعلوم حياة. هكذا تكتمل في الجائزة رسالة تجمع بين الروح والمعرفة. مع مرور العقود، غدت الجائزة إحدى أبرز المنارات الفكرية والعلمية في العالم، تجمع بين رسوخ الجذور وانفتاح الأفق، وتكرّم العلماء والمفكرين الذين أسهموا بجهودهم في إثراء الإنسانية علمًا وفكرًا. ولا عجب أن تكون قراراتها محل احترام واسع في الأوساط الأكاديمية العالمية، إذ يشرف على اختيار الفائزين لجان علمية متخصصة تضم نخبة من الخبراء والعلماء المستقلين من مختلف أنحاء العالم. وقد تجاوزت الجائزة في حضورها البعد المحلي والإقليمي لتصبح عنوانًا سعوديًا للاحترام الدولي، وسجلًا ناصعًا يزخر بالأسماء اللامعة التي غيّرت وجه المعرفة الحديثة، لتؤكد أن العلم لا وطن له، لكن التقدير النزيه يصنع له وطنًا في الرياض. السبق إلى التقدير على امتداد تاريخها، لم تكن جائزة الملك فيصل تلاحق إنجازًا علميًا تحقق فحسب، بل كانت كثيرًا ما تستشرف ما سيحدث في عالم البحث والاكتشاف. فقد مُنحت لعدد من العلماء الذين لم يلبثوا أن فازوا لاحقًا بجائزة نوبل، وكأن الرياض سبقت ستوكهولم إلى اكتشافهم، وهكذا غدت الجائزة السعودية، بما تحمله من صرامة علمية ونزاهة فكرية، بمثابة المحرار الذي يقيس حرارة الاكتشاف الإنساني، ويشير إلى العقول التي تستحق صدارة التكريم العالمي. ومن هؤلاء العلماء المرموقين: * العالم المصري أحمد زويل * العالم الألماني غونتر بلوبل * العالم الألماني جيرد بينيغ والسويسري هاينريخ روهرر * العالم الأمريكي ستيفن تشو * العالم الأمريكي كارل وايمان * العالم الأمريكي إريك كورنيل * العالم الياباني ريوجي نويوري * العالم الأمريكي باري شاربلس * العالم الجنوب أفريقي سدني برينر * العالم الفرنسي لوك مونتانييه * العالمة الفرنسية فرانسواز باري-سنوسي * العالم البريطاني روبرت إدواردز * العالم الياباني شينيا ياماناكا لم تقتصر العلاقة بين الجائزتين على أن تكون جائزة الملك فيصل سابقةً إلى التقدير، بل تجاوزت ذلك إلى تلاقياتٍ علميةٍ عميقة تؤكد أن ما يجمع الرياض وستوكهولم ليس المصادفة، بل الرؤية ذاتها التي تُنصت إلى نبض الاكتشاف الإنساني. فهذه التلاقيات لم تكن يومًا عَرَضًا زمنيًا، بل برهانًا على أن جائزة الملك فيصل تقف في مصاف الجوائز الكبرى التي ترصد الاتجاهات العلمية قبل أن تتحول إلى عناوين في الصحافة الدولية. عمر ياغي.. الامتداد السعودي حين حمل البروفيسور السعودي عمر ياغي، جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2025، كانت الأنظار تعود إلى عام 2015، حين توّجته جائزة الملك فيصل العالمية تقديرًا لإسهاماته الرائدة في تصميم الأطر المعدنية العضوية (MOFs) التي أحدثت ثورة في كيمياء المواد وتخزين الطاقة. لقد قدّرت الجائزة قبل عشر سنوات عبقرية هذا العالم الذي جمع بين الصرامة العلمية والخيال الابتكاري، لتؤكد مرة أخرى قدرتها على استشراف آفاق البحث العلمي قبل أن يتردد صداها في الأكاديمية الملكية السويدية. ويمثّل فوزه اليوم امتدادًا لنهج الجائزة في اكتشاف الطاقات العلمية قبل أن تتوّجها نوبل، ورسالة فخر سعودية بأن واحدًا من أبناء الوطن صار اسمه ضمن نخبة العلماء الذين غيّروا وجه الكيمياء الحديثة. إن قصة عمر ياغي ليست مجرد سيرة علمية، بل مرآة لهوية علمية سعودية تسهم في خدمة الإنسانية من خلال منظومة دعم معرفي راسخة، كان أحد أركانها الدائمة جائزة الملك فيصل العالمية. وعدٌ سعوديٌّ مستمر واليوم، وبينما ننتظر الإعلان عن الفائزين في الدورة الثامنة والأربعين لجائزة الملك فيصل لعام 2026، وإعلان الأمانة العامة للجائزة عن فتح باب الترشيحات للدورة التاسعة والأربعين لعام 2027، في فروعها الخمسة، نتيقن جميعا أن مسيرة الجائزة تتجدد بثباتٍ وثقة، حاملةً شعارها الأصيل: أن التكريم ليس خاتمة الإنجاز بل بدايته. فبفضل شراكاتها العلمية الواسعة وحرصها على تحديث معاييرها بما يواكب روح العصر، تبقى جائزة الملك فيصل منارةً عالميةً تستقطب أبرز الباحثين والعلماء في العالم، وتبني جسورًا بين العقول من الشرق والغرب، وتُسهم في رسم خريطة العلم الحديث من موقعها في الرياض، إنها ليست مجرد وسام شرف، بل وعدٌ سعوديٌّ مستمر بأن تكون المعرفة هي الطريق الأسمى إلى خدمة الإنسان والإنسانية