الديوان الجديد لـ “محمد ابراهيم يعقوب”..

نهرٌ يسقي الأسماء.. نيزك يهز العالم!

ذلك النيزك الشعري الذي جاء به محمد ابراهيم يعقوب، تناثرت شظاياه كفسيفساء شعرية في كل اتجاه لتخلق آلاف القصائد، جمع يعقوب نصوصه كما يجمع العارف خرائط الوجود، يرصفها بوعيٍ رؤيوي لتغدو صورةً كاملةً للعالم بكل جماله ودماره، بألمه ودهشته. هذا الديوان مذهل وصادم، وأقول ذلك بطمأنينة القارئ لا بصرامة الناقد الذي تقيّده النظريات، ديوان مذهل لأن يعقوب فيه يواجه ذاته كما يواجه العالم: يقف على الحافة، يرى الخراب بعينٍ مفتوحةٍ على الحقيقة، ويقول “ الأمر تمامًا أكثر تعقيدًا من ذلك”، تلك الذات القادرة على إعطاء العالم ظهرها وهي تقول: “ليس يعنيني كثيرًا” .. “ والذي لم يعد لم يعد!”، ويتصالح مع قلق المجهول بـ” ما لم يقل -غالبا- جارحٌ أو تأخر عن وقتهِ” وعن ثقةٍ يقر: “لم أكن أهذي تمامًا.. مسّني الشعرُ فكنتُ”.. وكيف حدث هذا؟ “رمتني امرأةٌ بالسهم الأول فانهال العالم”، ويستدرك: “ نقطة الضعف أن الحياة بديهيةٌ”. يُقال إن المعاناة هي جزء لا مفرّ منه في الوجود، لكن ما يُميّز الإنسان هو كيف يتعامل معها: أن يظلّ يُعطي المعنى، رغم أن هذا التعاطي قد يضعه في عزلة وهي ليست خلوًا مؤلمًا فحسب، بل فضاءً للتفكّر. يعقوب هنا يفكر ويرى ويشهد، ويخلق أفقًا جديدًا لعالم من اقتراحه، يعيد تعريف كل شيء من جديد “العلاقاتُ رميةُ نردٍ مكافأةٌ ليس في وسعنا ردها” “الشارع شخاذٌ محترفٌ” “العمّال هدايا الله” “العارفون انحيازٌ إلى اللانهائي” “ الحنين مثنّى” “تفاحة آدم فنٌ شعبيٌ” “اللذة تنويمٌ مغناطيسي” “العادات السيئة: تحققنا الإنساني” الضعف وثيقة حدسٍ” إلى آخره من إعادة تعريف كل شيء، حيث يبدأ نصه بهذا التمهيد للقارئ: “حدوث العالم شأنٌ شخصيٌ جدًا لن تحصى الأضرار النفسية للخيبات الأولى أعرف أن الكلمات تعيش طويلًا وأريدُ كتابةَ شيءٍ ما” عالم يعقوب لا يقول ان الحياة خالية من المكابدة المرهقة بل علينا أن نتخيل لنحيا، أو كما قال كاموا: “ علينا أن نتخيل سيزيف سعيدًا”، فكما يرى: “ قد يطول الوقوف بلا فائدةٍ كأنْ نتمهّل في الشعر” ويعترف: “ أوشك أن أحدثَ سمّتني أمي نور الله أبي لم يهجس لم أملك كتفًا كي أتمرد جاريت العالم عبثيًا في جيبي سخطٌ لا أحتاجُ إليه” يحاول يعقوب أن يجعل للشعر عملًا ما، في هذا العالم، أن يخلق عالمه الخاص ولا يقف عند مقولة هولدرين: “لماذا الشعراء في الزمن الرديء”. ليس متفائلا حد أن ينثر الورود في كل مكان، ولا عدميًا يغلق الآفاق، بل هو على طريقة الرواقيين: “إننا لا نمتعض من المصائب لأنها قاسية، بل هي قاسية لأننا نمتعض منها”. ختامًا في كل نصٍ مهم أشعر كقارئ إما بأثر الماء أو أثر النار، وفي نص محمد إبراهيم يعقوب، اجتمعا معًا: نهرٌ يروي الذاكرة، ويمنح الأسماء نضارتها الأولى، ونيزكٌ يهزّ العالم ليذكّرنا بأن الخلق لا يتمّ إلا من الرماد. هكذا رأيت ديوانه الأخير، لا ككتاب يُقرأ، بل كحدثٍ كونيٍّ صغيرٍ يُعيد ترتيب الوجود على مهلٍ، بيتًا بعد بيت، معنى بعد معنى. *شاعر