مصيون.. أولى خطوات الإنسان نحو العمران.

تواصل أرض المملكة العربية السعودية كتابة حكاياتها عبر الزمن، شاهدة على عمق حضارتها وتاريخها الإنساني العريق. ومن بين هذه الشواهد يتألق موقع مصيون شمال غرب نيوم، الذي كشفت الدراسات الأثرية المشتركة بين هيئة التراث وجامعة كانازاوا اليابانية أنه أقدم مستوطنة معمارية معروفة في الجزيرة العربية، تعود إلى نحو 11 ألف عام، في فترة العصر الحجري الحديث (ما قبل الفخار). يمثل مصيون لحظة فارقة في تاريخ الإنسان، حين قرر مغادرة حياة الصيد والترحال ليخطو نحو الاستقرار. تكشف الآثار المكتشفة هنا أن الإنسان بدأ في تشكيل بيئته الخاصة، فبنى مساكن بسيطة كانت الخطوة الأولى نحو العمران. وهذه المرحلة ليست مجرد فصل محلي في تاريخ الجزيرة العربية، بل جزء من قصة الإنسان الكبرى، المتزامنة مع بدايات الزراعة وتدجين الحيوانات وظهور الحياة الجماعية المنظمة. وفي ضوء هذه الاكتشافات، تتجلى أهمية المملكة في تعزيز هويتها الحضارية وصون تراثها الوطني، انسجامًا مع رؤية المملكة العربية السعودية 2030 التي جعلت الثقافة والتراث ركيزة أساسية للتنمية المستدامة. حماية المواقع الأثرية هنا لا تعني حفظ الماضي فقط، بل الاستثمار في الذاكرة الوطنية وتعزيز حضور المملكة على الخريطة الثقافية العالمية. القيمة الحقيقية لمصيون لا تكمن في قدمه وحده، بل في رمزيته كأرض لم تكن عبورًا عابرًا، بل موطنًا للبدايات. ومع كل اكتشاف جديد، نتأكد أن الجزيرة العربية كانت جزءًا أصيلًا من رحلة الإنسان الكبرى، وأن المملكة اليوم تواصل هذه المهمة عبر تقديم تراثها للعالم، كرصيد إنساني مشترك. ويمثل مصيون خطوة إضافية نحو ترسيخ مكانة المملكة الحضارية عالميًا، ونافذة لفهم جذورنا الممتدة إلى ما قبل التاريخ. ومع استمرار البحث والتنقيب، ستبقى هذه المواقع علامات مضيئة على طريق طويل بدأ منذ آلاف السنين، ولا يزال حاضرًا في هويتنا ومستقبلنا. * باحثة في علم الآثار والمتاحف