رسالة إلى صديقي الروائي

... فإنّي رأيتكَ قد عزمتَ أن تركبَ مركب العمل الروائي، وتزعم أنّك آثرتني دون غيري بالعلم بذلك، وأنك رغبتَ أن تجد عندي من النّصح ما يستقيم به أَودُ ما تكتبُ وأن تضعَ فيه لبناتٍ ذات قوامٍ مستقيم وبُنيان راسخ؛ ليكون كما تحبّ أن يكون بناءً مكتمل الأعضاء سليم التكوين تنبسط له العين، وتأنس به الروح، ويرعى فيه العقل، ويطيب به القلب. والحقّ – يا صديقي- أنّ بضاعتي في الرواية مزجاة، وأني لا أجد في نفسي ما يشفع لي أن أقدم لك ما تصبو إليه، وإن كنت قدَرتني أعلى من قدْري في ذلك، فهو حُسن ظنّ منك، وجميل لا يُنسى، وتقدير لا يُمحى، وعسى أن تلقى في هذه الرسالة ما يكون صوىً في طريقك وعلاماتٍ في سبيلك، فإن حمدت ما فيها ودلّتك إلى المبتغى، فهذا ما أروم وأقصد، فاحمد الله ولا تبالغْ في شكري، وإن كانت دون ما تأمّل، فهذا قصور منّي وهو جَهدي ومنتهى قصدي، فاحمدِ الله واقبل عذري؛ لأني لم أكن لأبلغ أعلى من ذلك، والنفس تؤول إلى النقص، والعقل يرجع إلى العجز. أيها الصديق، إنّك أعلم مني، وأنت صاحبُ فضلٍ، بأنّ العمل الروائي إنّما هو جهد عقلٍ وموهبةُ قلم، فإن هما اجتمعا لنفس صبورة وفكرة عميقة، أنتجا عملاً روائيًا، أحسبه أن يكون خالدًا، فالعمل الروائي إنما هو سرد ووصف، وهو محتاج إلى لغة تنهل من معين لا ينضب، ومن أساليب من بحر زاخر، ومن وصف يكشف تفاصيل النفس، وأُحجيات الخواطر، وما تكنّه القلوب، ومن سردٍ يخلبُ العقل، ويسهبُ في الأحداث، ويجنحُ إلى هزّ المشاعر والتأثير فيها، وهذا لا يتأتى لمن أراد أن يكتب عملاً روائيًا إلا بعد جهد جهيد، ومن هنا فإني أضع بين يديك ما أحسب أنها منارات هداية وآثار أقدام، لعلها أن تقربك إلى ما تريد، واثقًا من أنك تملك منها شيئًا كثيرا، ولكنّي أحببتُ أن أكتبها لك؛ لتكون رسالة حقيقةَ التأمّلِ بين الفينة والأخرى، وأن تستريح إليها؛ لتكون محفزًا لك في هذا العمل الذي عزمت عليه. وأولى هذا الصوى، أن تقرأ في كتب التراث قراءة متمعنة وأخصّ بذلك مقامات الهمذاني وما شابهها مما يجمع بين السرد والوصف واللغة، فإنّي وجدت في كتب التراث ملاذا لطالب اللغة، ومتجرًا لا يخسر من أساليب الكلام، ومخزونًا لا ينفد من صيغ القول، وهذا ركيزة أساسيّة لكل كاتب، يجد في نفسه الرغبة في تنمية مهاراته وبلوغ غاياته، فالقراءة في كتب التراث إنّما هي الخطوة اللازمة؛ ليتمكنَ الكاتب من اقتحام حسن الصياغة وجمال الأسلوب، وأن ينال بذلك مبلغًا لا يقصر دونه في محاسن القول وجماليات العبارة. فإذا انتهيت من كتب التراث، فعليك بكتب الرواد في العصر الحديث، ممن عرف عنهم ما سبق من قول، مثل طه حسن والعقاد، والزيات، ومحمود شاكر والرافعي والمنفلوطي وغيرهم. فهؤلاء الرواد جمعوا لك قراءة التراث والفكر الحديث، وأبحروا فيهما وعيًا وفهمًا، وأتقنوا الأساليب المتنوعة في تراثنا، فحقيق بك أن تغوص في أعماق ما كتبوا لتنهل مما نهلوا. أما الثانية، فإن الروائي لا يعزم الكتابة ولا يجزم أن يقتحم هذا الفنّ إلا بعد أن يقرأ في الروايات الغربيّة، فإن قرأها بلغتها فهذا الغاية وإليه المقصد، وإن قرأها مترجمة فالعقل في انتقاء خيرة المترجمين ومَن يُشهد لهم بحسن الترجمة وسلامة الأسلوب. فالقراءة في الروايات الغربيّة، يمنح العقل دقائق من التفاصيل ويحلل النفوس ويجوب أفق الغايات الخافية، ويفتح مجاهل غائبة في تحليل الشخصيات وإبراز المواقف وكشف المعاني في الأحداث، وطريقة السرد، ودقة الوصف. أما الثالثة، فإن البحث عن تفاصيل المجتمع لا يكون إلا في تأمل حركة الناس، والوقوف على تصرفاتهم والبحث عن أفكارهم والدخول معهم في نقاشات وحوارات، والقرب من أماكن وجودهم الدائم في صالات الانتظار، والمقاهي، والأسواق، وإشارات المرور، والأماكن الشعبية، والحدائق وغيرها، فهذه الأماكن تدعو الكاتب إلى تأمل الأفعال وتبيّن المشاعر وكشف الطباع والوصول إلى معنى المعاشرة والتعايش في رسم الشخصيات وأفعالها وأخلاقها وصفاتها. أما الرابعة الأخيرة، فإني وجدت التعايش الدائم والمعاشرة المستمرة مع العمل المقصود، وهو هنا كتابة رواية، هو السبب الرئيس للإنجاز، والخلوص إلى غاية يقصدها الكاتب، فالتعايش بكل ما تعنيه هذه الكلمة، هو أن يكون هذا العمل الروائي الذي تزعم أن تكتبه معك في ليلك ونهارك وفي يقظتك وسباتك، وفي حديثك مع نفسك ومع غيرك، وأن يأكل من عقلك شيئا فشيئا، وأن يستريح بين ضلوعك ليل نهار، وأن ينفذ إلى قلبك ليكون أقرب منه إليك. وبعد ذلك، فلا عجب إن قلت لك: إنّ من أراد كتابة رواية واحدة فعليه أن يقرأ مائة رواية من ثقافات شتى ومن عوالم مختلفة ومن مدارس مختلفة، ليكون بذلك خبيرا في أساليبها وطرق كتابتها، وتنوع شخصياتها، وتعدد أماكنها، وتحول أزمنتها، وتشكل أحداثها، وعمق عُقدها وتشابك حبكتها، وخلوصها إلى نتائج متنوعة، وغير ذلك مما هو من أدوات الرواية ومكنوناتها وتفاصيلها. وأخيرًا يا صديقي، لا أزعم أنّي محضت لك كلّ ما أريد، ولكن حسبي أني كتبت لك ما أجد فيه من غايات البلوغ ما يكون مفتاحا لغيره، وأن تكون هذه الوقفات إنما هي علامات ترقمُ بها ما تنوي عليه، وحسبي – مرة أخرى – أني اجتهدت ومحضتك النصح، فإنّ وجدت في هذا القول ما يشفع له أن يبقى لديك فهذا هو المراد والمقصد، وإن وجدته دون ما تأمل – وهو إلى ذلك أقرب- فاغفر لي زلة قلمي وقصور عقلي وجنوحي إلى غير ما تريد. ولك خالص ودّي ومحبتي.