
انطلقت زغاريد النساء بعد الفجر، يوم العرس قد حان. الحي متعطشُ للفرح. تخرجُ جارتي لتنشر غسيلها على السطح، أمها ترصّ تمر الاحتفال مع والدها في أطباق بلاستيكية، أطفالها يلاحقون سيارة البلدية ويرجمونها بالحصى؛ غير عابئين بالفرح القادم. النساء من فرط سعادتهن قد استعددن من الليلة السابقة، خضبن أياديهن بالحناء، وغسلن شعورهن بالمشاط الأحمر، فغدت تفوح منهن روائح عطرة. استترتُ في بيتي بأسى، انغمستُ في لجة الأحزان السابقة واللاحقة، فقدتّ منذ زمن أملي، حتى أحلامي بالاستقرار تبعثرت. أرقب العوائل وهي تتمشى بحبور في الشارع، أعرف أن أفراحي شحيحة، إذ لم انخرط في أفراحهم، حتى نسيت كيف يفتح الانسان قلبه للغناء، والتصفيق. قبل أربع سنوات كان عرس إحدى الجارات، فيها تلقيت خبر وفاة أبي، ربما صدمتني فكرة اختلاط الحزن بالفرح، ولم أعد أشعر بالأمان فيها، فبقيت رهينة الصدمة. كبلني الفقد، حتى فقدت إحساسي بالحب، التعاطف، أعرف أن لكل امرأة أحزانها الخاصة، لكن فرحهن واحد، يبتسمن لكلمة، لقصيدة، يشبهن العناقيد التي تضيء البيوت. أليست الأفراح باب للتحرر أيضًا؟ هذا العويل سيخرج لابد، صرتُ مرغمة على المقاومة، ربما سأتقبل خسارتي المتوقعة في ليلة العرس، من يعرف! في العصرية، وباتجاه بيت العروس، تتمشى النساء مع حكاياتهن البيضاء، تبرق من العيون المبرقعة، ويفتحن أبوابهن للجيران، يقعدن في الأحواش المفتوحة الأبواب، يتكئن وهن يشربن قهوتهن، زادهن الثقة المتبادلة. تدور الأحاديث بينهن باسترسال عن عرس الليلة المنتظر، يتبادلن آخر فنون الموديلات المستقى من كتالوج الجارة المتمدنة، تعطشهن للجمال يظهر في كرتة ملابسهن. تسأل إحداهن: من ستحضر من النسوة؟ بتجهم تلفظ السؤال، بينما الأخريات قد تجمدن في مكانهن، تدخل أخرى من الباب فتجيب بلهاث عن حضوري، فينفجر بعد ذلك المكان بالضحك المكتوم، لم تنس السائلة معركتها الخاسرة معي حين أعطبت إحدى فساتينها غيرة. أدخل لأول مرة بعد غياب، توقفت؛ مندهشة وكأنني أراهن لأول مرة، تجمدت من مبالغتهن في الفرح، هن بالمقابل تركن ما بين أيديهن، ومسحن ضحكاتهن، ووقفن يحيينني، أخرسني هذا الحب. أجلس بتوتر في حوش العرس، أنظر لطفلة تقف أمام الخياطة، بفرح تهز فستانها الواسع، تخرج من حقيبتها إبرة وخيط، لتضيّق الفستان على جسمها، ثم مسدت شعر الطفلة بحنان. بعد السلام، واهتزاز الفناجين، مالت عليّ إحداهن قالت: “لم أفرح في ليلة زواجي” كانوا قد ساقوها دون علمها إلى غرفة الزوج، تشيعها الزغاريد. النافذة مفتوحة، ألمح العروس في غرفتها تمد يدها في الهواء لتكتشف لأول مرة نقوش حنائها، أمها قد أجلستها على كرسي كبير، يحمل هذا الجسد الصغير الذي لازالت تلاعبه أحلام الطفولة وبراءتها. يُرّكب الرجال عناقيد الضوء على البيوت، يوقد صاحب العرس ناره، يطبخ الشاي على مهل، تتصاعد أبخرة القهوة في أيادي الرجال الذين يحملون فناجينهم المهيلة. ضجيج الفرح في حوش النساء يكبر، تصل لمسامع الرجال أغاني رقصهن، يتلصص عليهن بعض ضعاف النفوس الذين تحركهم شهوة الفضول، يرون تمايل الرؤوس، وتراقص شعور النساء الذي يتلاعب بها الهواء. تحضر أم سعد لدق الطبل، تغني أغنية الأعراس ومباركين عرس الاثنين، وسط ضجيج الأطفال الذين يعسون دكة الرقص، يشمون عرق الفرح من رقاب النسوة، اللواتي تملكتهن نشوة التمازج مع دق الطبول، العروس مطرقة رأسها، ترتعد أصابعها من فكرة العجن القادمة، لازالت خبزتها طرية، لم تختمر بعد، نضجت أولًا حديقتها استعداداً للقطف. أمها تدور عليها بالبخور، تحصنها بآيات من القرآن، وتنفث في وجهها، تتوافد النسوة للسلام على العروس، يباركهن هذا الفرح، ترى العجائر في فرح البنت، أُنسًا ينسيهن عناء السنين، تطفح غيرة بعضهن من الذهب الذي يثقل يد العروس، تطبع إحداهن على خدها قبلة رطبة لا تعرف الخشونة. عسل اللحظة يقطر من عيونهن وهن يرين زفة الرجال، يشاهدن العريس يتبختر وسطهن، مارًا على جلستهن في الحوش. تدخل أمه وأخواته من خلفه، تسبقهن الزغاريد. أنظر للفرحة الغامرة في الوجوه، أبتسم، أُسمع طبل ام سعد يلهب الحضور، وأغنية “ طبت اللي طيبها من طيب أهلها” يصدح، وأنا وسط هذا الجمع أرقص.