ولكنّ ما تقرأ لا يندثر ولا يغيب.

عندما تحل بقوم أو بلد مصيبة أو مشكلة كبيرة (كحريق مثلًا أو زلزال) فيفقد كثير منهم كل شيء في الحياة، فإن القارئ، على خلافهم، يتبقى لديه شيء واحد لا يفقده؛ وهو ما قرأه أو ما تعلّمه من علوم. كما أن فصله من وظيفته أو سرقة سيارته، أو أي أمر ثمين، أو حتى إصابة منزله أو شركته بحريق، لا يسلبه ما تعلمه من القراءة؛ حيث يبقى حين يتبخر ويذهب كل شيء. فلنبادر إلى تحصيل ما لا يمكن أخذه منا حين يذهب المال والصحة وربما بعض الأهل والأصحاب؛ وهو العلم المتأتي من القراءة. لكن المشكلة أن البعض يسارع إلى تحصيل ما يسهل فقده، وهو المال، في حين يتأخر في تحصيل ما يستحيل فقده وهو المعرفة، وكما قيل: “العلم يحرسك وأنت تحرس المال”. وحتى حينما يموت الكاتب فإن لدى كِتابه فرصة أن يبقى عقودًا وقرونًا اعتمادًا على أهميته وصلابة محتواه، فالكتاب هو أبقى شيء مادي في هذا الكون، حتى إنه أبقى من المال والنقود المعدنية، حيث نعرف عن كتب ونقرؤها رغم أنها صدرت منذ مئات أو آلاف السنين، في حين أننا نجهل عُملات تلك الأوقات وأكثرنا لم يسبق له أن شاهدها. وقد يبني أحدهم بيتًا أو عمارة أو برجًا سكنيًّا، ثم يموت، فيصبح الورثة هم من يملكونه لا من أصبح تحت التراب، لكن كتبه- إن كان كاتبًا- لا يمكن أن تُنسب لكاتب آخر؛ فهي مخلدة باسمه ما بقيت أوراقها كما يبقى ثوابها وأجرها له إن كانت مما يُفيد الناس. وأمامنا ما حصل من أحداث حين وقعت زلازل في بعض المدن في العالم وتحوّل إثرها الغني إلى فقير وربما فقد البعض مُعِيله أو أطفاله؛ لكن المعرفة لا يمكن أن يسلبها أحد ما دام الإنسان على قيد الحياة. *من لم تكن نفقته التي تخرج على الكتب ألذ عنده من إنفاق عشاق القيان لم يبلغ في العلم مبلغاً رضياً. الجاحظ