السعودية بين الثابت والمتغير.

تُعد المملكة العربية السعودية اليوم واحدة من أعظم الدول في العالم، ليس فقط بما تمتلكه من مقومات اقتصادية و جغرافية، و لكن أيضاً بقدرتها الفريدة على الجمع بين الثوابت الراسخة و المتغيرات الجريئة. هذا التوازن الاستراتيجي هو سرّ قوتها و حيويتها، و هو ما جعلها مركزاً عالمياً يُستند إليه في السياسة و الاقتصاد و الثقافة. الثوابت: عماد الهوية و الاستقرار: منذ تأسيسها، اختارت المملكة أن تُبنى على ثوابت شرعية و دينية راسخة. الإسلام هو مرجعية الحكم و التشريع، و الشريعة الإسلامية هي دستور الدولة و منطلق القرارات. هذا الثبات الديني منح المجتمع تماسكاً عميقاً، و أوجد إطاراً جامعاً يوحّد بين القيادة و الشعب تحت راية التوحيد. و من الناحية السياسية، ظلّت أسرة آل سعود على امتداد العقود رمزاً للحكم الرشيد القائم على الشورى و العدل و تحقيق الأمن. هذا الثبات في الحكم هو ما ضمن للمملكة استقراراً نادراً في منطقة مضطربة بالأزمات، فبينما شهدت دول عديدة صراعات و انقلابات، بقيت السعودية واحة استقرار، تُدار بحكمة و تُقود بثبات. أما في الاقتصاد، فالثابت الأساسي هو مكانة المملكة كأكبر منتج للنفط في العالم لعقود طويلة .. هذا المورد شكل العمود الفقري للتنمية، و أتاح استثمارات ضخمة في البنية التحتية و التعليم و الصحة. لكن المملكة لم تتوقف عند حدود النفط، بل اتخذته نقطة انطلاق لبناء قاعدة اقتصادية أوسع. المتغير: الجرأة في الاستباق إذا كانت الثوابت هي أساس الهوية، فإن المتغيرات تمثل روح التجديد، و المملكة اليوم لا تكتفي بالمواكبة، بل تجاوزتها إلى مرحلة الاستباق .. رؤية السعودية 2030، بقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مثال حيّ على هذه الروح الاستباقية. فبدل أن تنتظر التغيرات العالمية لتفرض نفسها، بادرت المملكة بصناعة مستقبلها وفق رؤيتها الخاصة. تحولت المملكة من الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي إلى تنويع مصادر الدخل كمشروعات كبرى مثل نيوم، و القدية، و البحر الأحمر ليست مجرد مشاريع اقتصادية، بل هي إعلان أن السعودية قررت أن تكون لاعباً أساسياً في الاقتصاد العالمي المتنوع. هذه المشاريع تستبق الطلب المستقبلي على السياحة المستدامة، و التقنيات الحديثة، و الاقتصاد الأخضر. المتغيرات شملت أيضاً الجوانب الاجتماعية .. الانفتاح الثقافي و الفني، و تمكين المرأة، و تعزيز المشاركة الشبابية، كلها تحولات جريئة أُديرت بحكمة، بحيث بقيت ضمن إطار القيم السعودية الأصيلة. و هذا التوازن بين المحافظة على الهوية والانفتاح على العالم هو ما يميز التجربة السعودية عن غيرها. في السياسة و الدبلوماسية لم تعد المملكة مجرد دولة نفطية ذات ثقل اقتصادي، بل أصبحت لاعباً محورياً في السياسة العالمية ، فمن مبادرة “الشرق الأوسط الأخضر” إلى استضافة القمم العالمية، وصولاً إلى دورها القيادي في ملف “حل الدولتين” برعاية الأمم المتحدة، باتت المملكة تصوغ الأجندة العالمية لا تكتفي بالتفاعل معها. إنها مرحلة “الاستباق” التي تجعلها شريكاً أساسياً في صياغة مستقبل المنطقة و العالم. قراءة في التجربة السعودية: إن التجربة السعودية لا يمكن حصرها في معادلة بسيطة بين القديم و الجديد، بل هي صياغة دقيقة لهوية متجددة ، فالثوابت تُعطي المملكة جذراً عميقاً يحفظ وحدتها و هويتها، بينما المتغيرات تمنحها أجنحة للتحليق في فضاء المستقبل. هذا النهج ينعكس في واقع المواطن الذي يعيش اليوم حياةً أكثر ازدهاراً و تنوعاً، و في صورة الدولة التي باتت وجهة عالمية للثقافة و الاستثمار و السياحة. يكفي أن نتأمل كيف تحولت “الرياض” من مدينة تقليدية إلى عاصمة عالمية تستضيف أهم الأحداث و الفعاليات الدولية، وكيف أصبحت “جدة” واجهة بحرية حديثة تجمع بين تاريخها العريق و روحها المتجددة، و كيف باتت “العلا” و “الدرعية” تشعّان بالتاريخ في المحافل الثقافية و الفنية على مستوى العالم. كلها شواهد حيّة على أن المملكة لا تكتفي بالحفاظ على إرثها، بل توظفه كمنصة للإبداع و النهوض. النتيجة: سعودية عظيمة بين الماضي والمستقبل: إن السياسة السعودية اليوم، القائمة على المزج بين الثابت و المتغير، أثمرت مكانة عالمية مرموقة ، فهي دولة تنهل من جذورها الدينية و السياسية و الاقتصادية، لكنها لا تتردد في اتخاذ خطوات جريئة و استباقية لتكون دائماً في موقع الريادة ، و هذا ما جعلها اليوم من أعظم دول العالم، قوةً و تأثيراً و حضوراً. ختاماً، يمكن القول إن سر نجاح المملكة يكمن في هذه المعادلة الذهبية: ثوابت لا تتغير تحفظ الهوية، و متغيرات جريئة تفتح الآفاق .. و من هذا التوازن وُلدت السعودية الحديثة، القوية، و العظيمة، التي تمضي بخطى واثقة نحو المستقبل.