إنسان الكهف الجديد!

إنسان الكهف في امتداده الحديث هو إنسان الواتس، حيث تجمع بينهما لغة الصور والملصقات، بالإضافة إلى الشكل الحلزوني المجوّف للكهف والواتس، فكلاهما سرادق طويل محكم الإغلاق لا ينفذ إليه النور. وهكذا تعيد التقنية الحديثة الإنسان البدائي في صيغته وصبغته الرقمية شيئا فشيئا فيما يشبه ردّ العجز على الصدر، وربط آخر نسخة من الحداثة بأوّل نسخة للوعي الإنساني. وفي هذا السياق يمكن التذكير بليفي استراوش ودراسته للإنسان البدائي حيث لا يرى فرقا بين الإنسان القديم والإنسان الحديث في التفكير، فليس صحيحا أن البدائية طور من أطوار التخلف أو الشكل الأول للوعي، فالإنسان لا يترقى في وعيه الثقافي والتاريخي كما يترقى الإنسان الفرد من طفولته إلى شبابه فكهولته وشيخوخته، وإنما تتطور من حوله التقنيات والوسائل التي يعبّر بها عن وجوده ووجدانه، وعن أفكاره وأحلامه. وفي صيغة إنسان الواتس تظهر مجددا الملصقات بوصفها أشكالا بدائية لطريقة التعبير القديم، وإن بدت في شكل رقمي مطوّر، فالتواصل الأيقوني في أساسه تواصل عبر الصورة الكلية الإجمالية، كأن تعبّر عن الامتنان بصورة إشارية تتضمّن هذه الدلالة في هيئة رجل باسم، أو ظلال تعبيرية، وعلى هذا النسق تجري بقية الملصقات من الصور الساخرة أو الغاضبة أو ذات الانطباعات الشعورية المختلفة. ويمكن أن تلحظ التقارب بين لغة الكهف في نقوشه وصوره ولغة الواتس في ملصقاته بالنظر إلى التحول من الكتابة الحرفية إلى الصور المجازية الإشارية وهي صيغ تعيد التقنية إنتاجها من جديد لإدخالنا في عصر هيروغليفي جديد، عصر يبدو بدائيا متطورا في آن واحد، وذلك ما يعزز عدم الفرق بين الإنسان الأول والإنسان الأخير؛ يعد أن التقيا أخيرا في هذا الفضاء الافتراضي في لغة موحّدة هي لغة الصور والملصقات. وفيما لو استمرّ الوضع على هذا النحو من التواصل فإن لغة الكتابة ستعود أدراجها من الحرف الاصطلاحي إلى الرمز المصور، ومن التفصيل إلى الإجمال، وذلك استجابة لإيقاع العصر السريع الذي ستغلب فيه لغة الإشارة على لغة اللفظ والخط، كما تطوّرت لغة العقد الحسابي من عقد الأصابع في العد إلى لوحة المفاتيح في الرقم على الحروف، وكما تحوّلت الآلة الحاسبة إلى الحاسوب المعقّد، ومع ذلك عاد إنسان الكهف الأول أو عادت بعض تقنياته الكتابية مع إنسان الواتس الجديد. إنّه، في كل الأحوال، إنسان الأدوات وهو يترقّى من طور إلى طور ومن صيغة إلى صيغة دون أن يفارق ظلّه الأول الذي رآه ذات زمن مرسوما على صدع الجبل!