الخروج إلى البيت.

ثمة كتب يتلقَّفها المرءُ وأخرى تتلقَّفه، ورحلات يأخذها وأخرى تأخذه، ولعلها أزمة متعلِّقة بالوجود. هذا ما أتى في بالي وأنا أقرأ على الشاطئ؛ إذ أخذني كالفينو في سفر زمني إلى شتاء بعيد… قهوتي المفضلة هيَّأَت الجو حتى توهمتُ شعوري بالدفء، تظل للجين العربي سطوته رغم الحرارة والرطوبة؛ إذ يميل إلى الحرارة مهما راقبَ الأنواء، ولو لم تكن موجودة لاخترعها. اكتشافُ النار يليق بالعربي أكثر من غيره، فهي أمامه دائما، يراها في الشمس ويحس بها في دمه، والآخرون الذين اهتدوا إليها قد فرحوا بمعرفتهم لها حتى عدّوها اكتشافا... ويا لبؤسهم حين عبدوها! أما العربي فطموحه أعلى. يعرف العربي من يستحق العبادة حدَّ الهداية بكتاب واحد فقط. وهي حاجةٌ تناسب طبعه، ومبلغ ارتوائهِ لا يرضيه شيء كذلك الكتاب حتى خُتمت الأديان بما جاءه، فقُطِع بذلك الكتاب شحُّ الأنبياء من بعده... لا أنبياء معاصرون، انتهى العظماء بآخر عظيمٍ كان الأول والخاتم عليه الصلاة والسلام… لكن هذا الحر ما زال غريبا، من يتنفّسه بهذه القسوة سوى النار؟ لعل الناس يتقاتلون أكثر بسببه… مع أنهم يتقاتلون لقرون بحثا عن نبيّ!، ولو خرج لاقتتلوا أيضا، لا حلَّ مع تناقضات البشر؛ إذ يعيش عدوّهم بينهم وفيهم ومن دونهم أيضا. أتذكّر ذلك وأنا أهيم بفكرة البلاغة، وكيف كانت كثافة ما يقوله الأنبياء رغم قلّته، مقابل ما أقرأه لهذا المتفاصح السيد كالفينو، إنه يقول كثيرا مما تغني عنه البلاغةُ، وكم يزعجني ذلك. تأملات شتى تثيرها الرحلة؛ عن جدوى الخروج من البيت، أو البحث عنه في الخارج! حتى وإن التهمني الحرُّ، أو حيلُ الكتابة… أو تلك الحروب والدماء وحرارة الطقس وجوّ القهوة، كل ذلك وأنا جالسة في مكاني حتى قُطعتْ عليّ رحلتي… لقد قطع علينا الرحلة مستر سلطع، سرطان البحر الشهير في إحدى المسلسلات الكرتونية. ما زال على مشيته التجانبيّة، يتقرَّبُ لمن يبتعد، ويهرب عمن يروم اقترابا، كأنه نصُّ كالفينو، أو جهده على النص… قلت له: «سبحان من هيأ لكل مخلوق طبعه»... تجمّدَ قليلا كأنه يراجع نفسه، ثم انطلقَ لطبعِهِ بلا فائدة... لا ألومه، فللمخلوقات عباداتها... عندما هرب إلى صخرته؛ أدركتُ أنّ له فيها صغارا، فالكائن الخائف يدلُّ بنفسه على مكامن خوفه، بل يفوح برائحة الخوف بيته، كتلك الصخرة المثقوبة بضرب الماء. شقوقها تذكرني بالنوافذ رغم تضليل الطحالب والعوالق. لعلَّ هذا ما كان يفعله كالفينو وهو يهرب في النص الذي شتَّتَني… أو أنَّ روحه سكنَت في نصّ يشبهها. قلت له مجددا: «سبحان من هيَّأَ لكلٍ طبعه»، ولم يكترث إلا حين وضعتُ كتابي في الحقيبة وحملت الكرسي تجاه الصخرة، وعلى السيد كالفينو الانتظار بناء على نصّه… شعَرَ مستر سلطع بالتهديد وهو يراني واضعةً قدميّ في الماء، منتظرة منه ما يعضد تخميني. ظللتُ أرقب صخرته حتى خرج صغيرٌ متمرد، ثم تلاه آخر، وحين اقتربتُ منهما لألتقط صورةً؛ اختفيا في جزء من الثانية فعدتُ لمرقبي... لم أحسب أنهما سريعان إلى هذه الدرجة. لقد أورثهما الكبيرُ حذرَه ففوَّتا كثيرا من الرحلات والأصدقاء... واظبَ مستر سلطع على خططه الفاشلة في الاقتراب مني، كان يسن سلاحه، وياله من سلاح، قرصة يجهر بها بكلتا يديه، وذات سُمّيّة متواضعة. يا للقوة الهيّنة! استمرّ بمباغتتي، وواظبتُ على إخافته ليبتعد، يحاول قلب الطاولة لآخذ موقف الدفاع فأهرب، وأنا أبادله المنطق حتى فرّق بيننا الغروب... أعلم جيدا كم يكون الظلام في صفّ من يُفضّل استغلاله. فللخفاء حكمته وأنصاره. تراجعتُ كثيرا، ذهبتُ إلى منطقة جافة، ارتديتُ حذائي، وهيأت الجو مجددا، وحينها بردت القهوة... وأي طعم يبقى لشيء بارد؟ حرارة الأشياء جزء من حياتها… هذا ما فقدتهُ في عمل كالفينو؛ الرواية المؤجلة بناء على دروس في الكتابة. ويالها من فكرة مملة لتدور داخل رواية. هل يحتاج الكاتب الجيد لذلك؟ لا أعلم، ربما لا يكتبُ من أرادَ الكتابة، بل من ضاقت به الأشياءُ ودفعته بنفسها إلى الكتابة. لعلَّ الضيقَ دافعٌ أوَّل لارتكابها لا الدروس ولا الترف وادعاءات التهيئة. أخبرتني بذلك الحرارةُ في دمي، فالبرودة لا تُحيي شيئا بل توقِفُ حياته. ويا لها من فكرة! نعم… تبدو البرودةُ مقاومة الأشياء لإيقاف الزمن. ولو قاطَعَنا مستر سلطع لأيَّدَني، سيقول بأنّ الكتابة مشية خاصة لا تُلقَّن، وأنّه يفضّل القرب من الماء ليتلاعب بالزمن عبر استجلاب برودة جزئية، سيفصِحُ عن ذلك ببلاغة تشبه جهرَهُ بقرصته، ثم يمشي بشكلٍ تجانبيٍّ ويدخل صخرته وهو يضحك. الضحك انتصارٌ للوجود على الزمن. عندما أخرجتُ السيد كالفينو مرة أخرى؛ صار الظلام يخون القراءة. الظلام برودة أخرى لو فكَّرْنا بذلك. لعل كالفينو سيغضب مني، أو ربما يبتهج لما أثاره بي من أفكار، أو سيبحث عن كتابي الذي أُرسل إلى قومي ليعرفَ جوهر الرحلة في هذه الحياة؛ فلي غروري أنا أيضا؛ فليس كل ما تتلقّفه يدي يعجبني، حتى تركتهم معا: الكرسي والكتاب والقهوة الباردة، وعدتُ برحلتي كاملةً إلى البيت. «إننا لا نفقد حقا ما نحتاج إليه»… قالها مستر سلطع، ثم دخل صخرته وهو يضحك. وكانت كلماته أكثر ما سمعتُهُ حكمةً منذ خريفين، لا الكتب ولا رحلاتي اللاحقة أو تأملاتي، بل كلماته وحدها.