
كانت الزفة دائماً لحظة الفرح الكبرى، المشهد الأبرز في ليلة الزفاف، واللحظة التي تتوجه فيها العيون كلها نحو العروس، تختلف الطقوس من أسرة إلى أخرى، لكنها في النهاية تلتقي عند شيء واحد، أن الزفة للعروس لتزيد وهجها وسط الحفل، كانت تزف وكأنها داخل موكب، يحيط به أصوات الطيران الهادئة التي تنسجم مع خطواتها البطيئة، حيث يتم الطرق على طار ( المرد و المصقاع ) من اربع أو خمس من عضوات الفرقة المغنية، وإن كان المصقاع يحضر هنا بشكل إعلان فرح وليس كما يستخدم مثلاً في الايقاع الدوسري الذي يعتبر عنصر أساسي، حيث يميل الطق إلى ما يسمى باللون الكويتي الهادئ، ومع مرور الوقت بدأت بعض الفرق تضيف الطبلة في الزفة لتعطي للصوت مساحة أوسع وأقوى، وهناك عدد قليل جداً من الصور انتشرت في الانترنت لهذه الزفة في الثمانينات الميلادية . عندما أكتب عن هذه المظاهر فإنني لا أقصد جميع مناطق المملكة العربية السعودية، فلكل منطقة طقوسها ومظاهرها، لكن حديثي هنا عن الرياض كما عرفتها، من الذكريات التي بقيت عالقة في ذهني، لاسيما أن كثير من الأسر مازالت تحتفظ علاوة على صور حفلات الزفاف، أفلام فيديو توثق هذه الليالي، وفي الغالب تكون الأفلام المقاس الكبير JVC وهو ما كان يسمى بالعامية الشريط الكبير، وكان هو الأكثر انتشارًا في الثمانينات والتسعينات، وبعده جاء الشريط الصغير وهو SONY وهو أصغر حجماً من JVC . من الفقرات المهمة جداً في ليلة الزفاف وقد تساوي في أهميتها أو أقل منها بدرجة، وجود الطفلات حاملات الشموع، كانت تلك الفعالية أجمل ما يمكن أن تحظى به طفلة، وقد حظيت به أنا شخصيًا أكثر من مرة في زواجات قريباتي، كان الكبار يحرصون علينا حرصاً مبالغاً حتى قد تعكر أمزجتنا لولا أن إغراء حمل الشمعة والسير مع العروس أقوى من أي ضغط أو تهديد، مما يجعلنا نقسم ونحلف بالإيمان أن ننتبه ونحذر ونمسك الشمعة جيداً حتى لا تميل أو تسقط، أظن أن تلك الشموع كانت تباع في سوق السويقة الشهير، أو في سوق المتنبي الذي كان لا يقل عنه شهرة، بل ربما كان يتفوق عليه في بعض الأحيان. كانت الطفلات يسرن مع العروس بنفس خطواتها البطيئة الخجولة وهن يحملن الشموع، وبعضهن يحملن سلال الورد لرميها على العروس حتى تصل إلى الكوشة، والكوشة كلمة قديمة لم تتغير مع مرور الزمن، ظلّت كما هي في كل المناطق، وربما في كل الدول العربية الامتياز المضاعف للطفلات فوق تسليط الضوء عليهن كونهن رفيقات العروس، أن الفساتين تعكس هذه المكانة، فهي إما أن تكون مثل موديل فستان العروس، أو موديل مختلف ولكن شريطة أن تكون بيضاء أو وردية، وهذا يعني أن الطفلة تغير أكثر من فستان في الليلة الواحدة، ورغم الألم الخفيف والمتواصل الذي يسببه احتكاك النفاش الخشن الذي يُلبس تحت الفستان لأجساد الطفلات إلا أنه يتم تجاهله أو تحمله في سبيل إكمال المظهر البهي ؛ و مسألة تغيير الفساتين لم تكن مقصورة على الأطفال فقط، بل كانت بعض أفراد أسرة العروس يبدلن فساتينهن بعد العشاء الذي يأتي بعد الزفة، وقد كانت هذه الظاهرة أكثر وضوحاً في الأعراس التي تمتد حتى الصباح، وأقصد بالصباح الساعة السابعة أو الثامنة أو حتى التاسعة صباحًا. ولم يكن الأمر حكراً على أهل العروس، بل كان يعتمد في بعض الأحيان على من يتحمل تكاليف القاعة، إذ يمنحه ذلك حرية استخدام الغرف والمرافق، وفي بعض الأعراس كان استئجار القاعة يتم مناصفة بين الأسرتين، فيتقاسم الجميع المرافق براحة، أو أن كانت ترتبط الأسرتين بروابط قرابة أو صداقة. وبعد دخول العروس على وقع الطبول الناعمة، تبدأ فقرة الأغاني الخاصة بها، ما زالت كلمات بعضها تتردد في ذاكرتي: “لا لا يا أم العروسة الله يتمم هناكي لا لا ليلة سعيدة والحبايب معاكي.” وأغنية أخرى تقول: “جينا نبارك محبة تمخطري حبة حبة عروسة حلوة وزينة عريسها أحلى وأحلى” وكانت أيضًا تُغنى: “ألا يا عباد الله قولوا مبارك.” في هذه اللحظة قد ينتهي دور الأطفال عند جلوس العروس على الكوشة، وقد يستمر حتى دخول العريس، الذي كان يُستقبل غالباً بأغنية: “يا مرحبا بالمقبلين واللي حضر والغايبين.” ثم تبدأ اللحظة الذهبية التي لا تُنسى: لحظة رفع العريس للطرحة الخفيفة عن وجه العروس، مشهد أقرب إلى فيلم رومانسي، وكأننا أمام محمود ياسين ونجلاء فتحي، شاشة السينما وقد تحولت إلى واقع حي أمامنا، يتبع ذلك مشهد تبادل العصير، كل منهما يسقي الآخر، وسط قلق واضح من أن ينسكب شيء على فستان العروس وهو ما كان يُسمى شرعه، فالفستان أهم من ثوب ومشلح العريس، فالمشلح إن اتسخ يمكن تغييره بسهولة، أما فستان الزفاف فقد استغرق شهوراً من البحث عن خياط بارع وضبط المقاسات والتفاصيل، ففي تلك الفترة لم تكن المشاغل النسائية منتشرة أو تحظى بالثقة، على عكس الخياطين الذين اشتهر بعضهم وذاع صيتهم، وكان أشهرهم ربما في شارع العصارات قرب كبري الشميسي، الذي أشيع عن أحدهم أنه هو من يخيط بعض فساتين الفنانة عتاب . بعد دخول العريس تنتهي مهمة الأطفال، وكما استُقبلت العروس بالطبول والأغاني، تُودّع هي والعريس بأغنية خاصة: “مع السلامة يا العروس يحفظك الله يا العريس.” وبرغم أن طقوس الأعراس تبدلت بشكل جذري منذ عقدين تقريباً، إلا أن بعض هذه المظاهر عادت إلى الواجهة، لاسيما في المنطقة الغربية، حيث عادت زفة الطبول برفقة النساء، وكأن الزمن يعيد شيئًا من روحه القديمة. تلك الزفات لم تكن مجرد طقوس للفرح، بل ليلة تجتمع فيها العائلة والطفلات والطبول والأغاني لتصنع ذكرى وردية وزاهية، كانت الشموع، والطرحة، وفستان العروس، وأصوات الطيران، كلها تفاصيل صغيرة لكنها حملت في جوهرها معنى الفرح والبهجة، واليوم، حتى وإن تبدلت الطقوس وتغيرت القاعات، تبقى تلك اللحظات محفورة في الذاكرة، تلمع مثل الشمعة التي حملناها يوماً بأيدينا الصغيرة.