اليأس

حين كان جيلي شابا ، كنا نصنع زوارق تسير بنا في الفضاء، ونصنع من السراب أنهارا، تروي حدائق الأحلام، وكان اليقين يرفرف على الشعارات التي نرفعها، ويخبرنا بأنها سوف تتحقق بالضرورة؛ لأن الزمن قد وضع عنانه في أيدينا. وكان اليأس يخشى أن يمر بديارنا، من المحيط إلى الخليج، كما يقال بسخرية . ومد الواقع يديه وأزاح عن عيوننا ما عليها من غشاوة، إذا بنا مهزلة، يقرأها العالم ويضحك. يا ويلتاه. ماذا تسمي هذا السبات الذي حل على الأمة؟ هل تسميه العجز عن قراءة الواقع؟ هل تسميه الرق الطوعي؟ هل تسميه التخلي عن القيم وعن التاريخ؟ أم تسميه بها جميعا؟ سمه بما شئت، ولكن يبقى أن تشرح لي كيف تساعد أمة ما، من يوسعها هدما، ويقودها إلى الهاوية؟ (أطل على المفردات التي انقرضت من لسان العرب) هكذا قلت يا درويش، وكانت نوافذ أخرى كثيرة، مفتوحة للضوء أمامك، أما نحن فنطل على انقراض الوجود وجودنا يا محمود. إلي إلي أيها اليأس، كنا نحسبك عدوا يخفي خناجره، ونسخر من الذين يرونك قريبا، وكنا غارقين في الوهم، فأنت الذي تزيح عن القلوب همومها، وتقرأ علينا قول أبي العلاء (السيف والرمح قد أودى زمانهما / فهل لكفك في عود ومضراب) نعم. (مضى زمن قد لعبنا به / وجاء زمان بنا يلعب) المشكلة ليست هنا، إنها تكمن في كيفية اللعب. إن لعب الزمن بالإنسان، ولعب الإنسان بالزمن، جدلية أزلية. ولكن الاختلاف في نوعية اللعب، هل يتبادل اللاعبان النصر والهزيمة؟ أم يكون النصر لأحدهما دائما؟ نحن دائما الفريق الخاسر، والأشد مضاضة أننا نعتبر الهزيمة نصرا. أهلا بك أيها اليأس، أرجو أن تغفر لنا ما اقترفناه في حقك. وتعيد رفرفة أغصانك علينا، فقد شوانا لهب لا قبل لنا به. قلت مرة: سأشعل في داخلي شمعة للخريف / وعيدا صغيرا على دربه / سأقول له: عم حصادا يا صاحب المنجل المتلثم / أسن الماء تحت الجذور / وأورق هذا الشجر سفاحا / فأوغل به المنجل المتلثم ...) أما الآن فلست أقول هذا، بل أرحب بك أيها اليأس، في حالة من النشوة والفرح، وأدعوك إلى سهرة حمراء على صوت المطربة المصونة، والجوهرة المكنونة السيدة نانسي عجرم. ونقول: وداعا أيتها الكآبة (عفوا) (وداعا أيتها الكتابة).