التبادل الثقافي بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية..
جسور المعرفة والتواصل الحضاري.

من الشراكة الشاملة إلى عامٍ ثقافيٍّ كامل تشكّل الثقافة اليوم أحد أعمدة الشراكة السعودية–الصينية التي ارتقت منذ عام 2016م إلى مستوى «الشراكة الإستراتيجية الشاملة»، مع تأكيد التعاون في الثقافة والعلوم والتعليم ضمن حزمة اتفاقات كبرى رافقت زيارة الرئيس شي جين بينغ إلى الرياض آنذاك. هذا التطور لم يكن مجرّد حاجة سياسية واقتصادية، بل عنى إدخال الثقافة بوصفها مجالًا ذي أولوية في أجندة العمل المشترك، إلى جانب الطاقة والاقتصاد والعلوم والتقنية. وقد نصّ البيان المشترك على توسيع الإطار المؤسسي للدعم المتبادل في الثقافة والتعليم والبحث والاتصال الحضاري. تراكمت بعد ذلك محطات نوعية، أبرزها: قمة الرياض الصينية العربية عام 2022م التي وقّعت على هامشها عشرات الاتفاقات وفتحت مسارًا أوسع للتعاون الثقافي والمعرفي؛ ثم انتقل التعاون من مستوى القطاع مقابل القطاع إلى مستوى الدولة مقابل الدولة مع مذكرات تفاهم ثقافية متخصصة في المتاحف والتراث والفنون والسينما. وفي مارس عام 2025م أطلقت وزارة الثقافة «العام الثقافي السعودي–الصيني 2025»، بإطارٍ تنفيذيٍّ ينقل التعاون إلى فعّاليات ممتدة على مدار العام في بكين ومدنٍ صينية أخرى، وفي الرياض ومدنٍ سعودية أخرى، بما يوفّر منصّة مستدامة للزيارات والمعارض والإنتاج المشترك والبحوث والدراسات والتبادل الثقافي. يتوازى ذلك مع تسهيلات كبيرة في حركة الأفراد والفعاليات: فقد أعلنت الصين في مايو عام 2025م إعفاءً أحاديًا لمواطني المملكة من التأشيرة لمدة عام كامل بحيث يمكنهم البقاء في الصين حتى 30 يومًا لأغراض السياحة والأعمال والزيارات والتبادل، ما أزال واحدًا من أكبر العوائق أمام التفاعلات الثقافية قصيرة ومتوسطة المدى. هذا الاتساع في المشهد ليس فعلاً دعائيًا؛ إنما تدعمه أرقام ملموسة في: السياحة، والتعليم، والنشر، والسينما، والمتاحف، ومراكز الفكر، ويسنده تاريخ تراكمي في النشر والترجمة والبحث حول الصين في السعودية وبالعكس، وهي عناصر سنقارب ملامح موجزة منها. اللغة بوصفها بنية تحتية للتبادل: من قرار تدريس الصينية 2019م إلى معلمٍ في كل مدرسة حين قرّرت المملكة عام 2019م إدراج اللغة الصينية في جميع المراحل التعليمية، كان ذلك إعلانًا أن العلاقة مع الصين ستُترجم إلى كفاءات بشرية ونوافذ معرفية مستدامة. وقد تحوّل القرار إلى تطبيق تدريجي بلغ ذروته عام 2024م مع انطلاق تدريس الصينية في مدارس مختارة للمرحلتين الابتدائية والمتوسطة بعد أن كانت المدارس المختارة مقتصرة على المرحلة الثانوية، ثم وصول 175 معلّمًا صينيًا إلى السعودية لبدء التدريس بعد برنامج تأهيل مشترك في جامعة تيانجين. هذه الخطوات تعني أن التبادل الثقافي صار له جمهور أساسي داخل الصفوف الدراسية، ولا يقتصر على البعثات أو النخب الأكاديمية. في أبريل عام 2025م، وقّعت وزارتا التعليم في البلدين مذكرتي تعاون تُوسّعان الشراكة لتشمل تطوير مناهج اللغة الصينية، وتبادل الخبرات والتدريب والمنح، واستقطاب الطلاب السعوديين للدراسة في جامعات صينية مرموقة. وتؤكّد بيانات وزارة التعليم السعودية تسجيل 174 طالبًا سعوديًا في الجامعات الصينية (131 مبتعثًا و43 على نفقتهم)، في مقابل 477 منحة سنوية قدّمتها المملكة لطلابٍ صينيين في الجامعات السعودية؛ وهذه أرقام تمنح التبادل التعليمي توازنًا بنيويًا. ولا تقتصر البنية التحتية اللغوية على التعليم العام؛ إذ تعمل مكتبة الملك عبد العزيز العامة – فرع جامعة بكين (افتتح قبل أعوام) بوصفها مركزًا ثقافيًا وتعليميًا لتدريس العربية ونشرها في الصين وتنظيم معارض ولقاءات، وهي ذراع سعودية ثقافية مستقرة في قلب أكبر جامعة صينية، بما يعمّق المعرفة المتبادلة ويُسهم في تكوين «قارئٍ صينيٍّ» للثقافة السعودية. كما يشهد الفرع أنشطة متواصلة ومعارض ودورات منذ عام 2018م وما بعدها. الفنون والفعاليات: عامٌ ثقافيٌّ يتحوّل إلى مسرحٍ عام مع انطلاق «العام الثقافي السعودي–الصيني 2025»، تتابعت الفعاليات النوعية في الفنون البصرية والأداء والموسيقا. فقدّمت «اللجنة السعودية للفنون البصرية» بالتعاون مع مؤسسة UCCA» « في شنغهاي معرضًا شخصيًا واسعًا للفنان السعودي أحمد ماطر «أنتينا» بين مارس ويوليو عام 2025م، وهو حدثٌ ينقل الفن السعودي المعاصر إلى جمهورٍ صيني واسع داخل مؤسسة آسيوية مرجعية في الفن المعاصر. كما استضافت الرياض في سبتمبر عام 2025م أوبرا «كارمن» لدار الأوبرا الوطنية الصينية لثلاث ليالٍ في مركز الملك فهد الثقافي ضمن برنامج العام الثقافي، في تظاهرة تؤكد الانتقال من «الزيارات البروتوكولية» إلى عروض كبرى وجمهور عريض. وعلى محور البحث والدراسات الثقافية، أعلنت وزارة الثقافة في سبتمبر عام 2025م اختيار 20 مقترحًا بحثيًا ضمن «منحة العلاقات الثقافية السعودية–الصينية» التي أُطلقت كأحد مسارات العام الثقافي، ما يؤسس لمستوىٍ معرفي يرافق الوهج الجماهيري ويوفر قاعدة بيانات ومنهجيات تُعزّز صناعة السياسات الثقافية. السينما والصناعات الإبداعية: من عروضٍ تعريفية إلى بحث إنشاء صندوق إنتاج مشترك تتقدّم السينما بوصفها جسرًا ثقافيًا واقتصاديًا معًا. ففي مارس عام 2024م وقّعت «هيئة الأفلام» السعودية مذكرة تفاهم إطار مع مجموعة «بونا» الصينية الرائدة، لفتح مسارات في التوزيع المتبادل، وبرامج تدريب وتطوير مهارات، وبحث إنشاء صندوقٍ مشتركٍ للإنتاج، وهو تحوّل يربط بيئة الإنتاج السعودية بأكبر سوقٍ سينمائي عالمي. أعقب ذلك إطلاق «ليالي الفيلم السعودي» في مدنٍ صينية أواخر عام 2024م، وهي أول إطلالة منظّمة للأفلام السعودية على صالات السينما الصينية. هذه الخطوات تصنع مسارًا مستدامًا للجمهور وعلى صعيدي المهارات والاستثمار. المتاحف والتراث والآثار: تعاون مؤسسي واسع بين الرياض وبكين تجاوز التعاون الثقافي الحدود الجغرافية إلى جذور الحضارة عبر المتاحف والتراث الأثري. ففي أكتوبر عام 2024م وُقِّعت برامج تنفيذية بين «هيئة المتاحف» السعودية وعدد من المتاحف الصينية الكبرى (المتحف الوطني الصيني، ومتحف القصر الإمبراطوري «المدينة المحرّمة») لتبادل الخبرات والمعارض والتدريب وحفظ المجموعات. كما جُدِّد التعاون الأثري بين «هيئة التراث» السعودية والإدارة الوطنية الصينية للتراث الثقافي، بما يشمل مشاريع تنقيب مشتركة في مواقع مثل مرفأ «السِّرِّيان» التاريخي. هذه الاتفاقيات المؤسساتية تمنح التعاون استدامةً هيكلية، وتتفق مع رؤية 2030 في صون التراث وتدويله عبر شراكات رصينة. النشر والترجمة: «النوافذ الحضارية» تتسع يمثّل النشر والترجمة أحد أقدم جسور انتقال المعرفة بين البلدين، وقد تصاعد منذ سنوات ضمن «مشروع تجسير الثقافة السعودية إلى الصين» الذي بدأه مركز البحوث والتواصل المعرفي بالشراكة مع دور نشر ومؤسسات صينية . ثم دشّن المركز المرحلة الثانية من المشروع عام 2021م بشراكة مع جامعة بكين للمعلمين و«دار إنتركونتننتال» الصينية، وواصل بعد ذلك تنظيم الندوات وحفلات الإشهار في بكين والرياض وإطلاق إصدارات تغطّي الأدب والفكر والعلوم الاجتماعية. ثم جاء مشروع «النشر المشترك للأعمال الكلاسيكية والحديثة» الذي تشرف عليه وزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة» السعودية (التي تبذل جهودًا كبيرة في التبادل الثقافي مع عدد من الدول وتشرف على ترجمة النتاج الثقافي السعودي إلى عدة لغات)، حيث أسندت الهيئة هذا المشروع إلى عدة جهات ومنصات ثقافية وعلمية سعودية، كان أبرزها مركز البحوث والتواصل المعرفي لسابق خبراته وإسهاماته في هذا المجال. ويوثّق أحد تقارير المركز، أن المركز أوصى للجانب الصيني حتى يناير 2024م بترجمة أربعة عشر كتابًا سعوديًا، وأن المشروع بات يملك قنوات ترويج وتوزيع معتبرة بعد سلسلة فعاليات منذ عام 2019م، منها مؤتمرات خلال معرض بكين الدولي للكتاب، وتدشين المرحلة الثانية في الرياض بحضور السفير الصيني آنذاك، وندوات مشتركة في عام 2023م. هذه التفاصيل تُظهر أن الترجمة لم تعد مبادرات متفرّقة، بل برنامجًا مُخطّطًا بإحصاءات تتبّع خريطة الوصول للقرّاء. وتستهدف هيئة الأدب والنشر والترجمة» ترجمة عشرين كتابًا سعوديًا إلى اللغة الصينية ضمن مشروع «النشر المشترك للأعمال الكلاسيكية والحديثة» خلال عام 2025م، وفي المقابل يستهدف الجانب الصيني العدد نفسه للكتب الصينية المُراد ترجمتها إلى العربية. سياحة المعرفة والدين والثقافة: أرقامٌ تتحدث على الرغم من أن الحج والعمرة ليسا سياحة بالمعنى التقليدي، فإن تدفّق ملايين الزوار سنويًا يمثل أكبر مجال للتواصل الحضاري في العالم الإسلامي، والصين إحدى الدول التي يفد منها عدد كبير من المسلمين إلى الديار المقدّسة ضمن موجات تتزايد ولا سيما بعد جائحة كورونا. وفي المسار السياحي العام، حازت السعودية في يوليو عام 2024م على أفضلية «وضع الوجهة المعتمدة» للسياح الصينيين، مما سهّل حملات الترويج والبرامج الميسّرة، وأطلقت «هيئة السياحة السعودية» مهرجانًا سياحيًا كبيرًا في بكين في أكتوبر عام 2024م، وفتحت خطوط طيران مباشرة جديدة لدعم رحلات بين شنغهاي والرياض بواقع ثلاث رحلات أسبوعيًا، لتقليص مسافة السفر ورفع القدرة الاستيعابية. وتشير تقديرات عام 2024م إلى وصول عدد السيّاح الصينيين للمملكة إلى نحو 140 ألفًا، مع خطط لرفع العدد إلى نصف مليون سنويًا، وهي قفزة تُنبئ عن حجم الشراكة السعودية الصينية وطموحات المسؤولين في البلدين في هذا الصدد. وفي الاتجاه المعاكس، تُسهِّل إجراءات الصين الأخيرة ؛ ومنها الإعفاء المؤقّت للسعوديين من التأشيرة لعامٍ كامل بدءًا من 9 يونيو عام 2025م، سفر الوفود الثقافية والتعليمية والسياحية، ما يعزّز ديناميّة «عام الثقافة» عبر كثافة الحضور السعودي في مدنٍ صينية لإقامة عروضٍ ومعارضٍ وتوقيع اتفاقاتٍ مباشرة. الواجهات الجماهيرية للثقافة: (المتاحف والمكتبات والمسارح والمعارض) لم يَعُد التعاون في هذه المجالات الثقافية مقتصرًا على تبادل الوفود؛ إذ باتت هناك مساحاتٌ مشتركة تُمكّن عرض المحتوى السعودي داخل الصين، مثل: فرع مكتبة الملك عبد العزيز في جامعة بكين الذي ينظم معارض للخط العربي والثقافة السعودية منذ عام 2018م، ويستقبل وفودًا فنية صينية للتعاون، كما شهد أنشطة عامّة في عام 2024م. هذه البنية تعني أن هناك «عنوانًا سعوديًا» دائمًا داخل بكين، يمكن أن يتحوّل إلى مركز لعمليات الترجمة والبحث والفعاليات. وفي الرياض ومدن المملكة، يسهم «العام الثقافي» في استقطاب عروضٍ صينية نوعية، كما حدث مع أوبرا «كارمن»، فضلًا عن برامج موسيقية وعروضٍ أداء، ما يتيح للجمهور السعودي اختبار الثقافة الصينية الحيّة في مسارح وطنية، ويخلق شرائح متذوِّقة تُطالب بالمزيد من التبادل. مراكز البحوث والإعلام: تواصلٌ معرفي مُمنهج تبذل جميع المراكز السعودية جهودُا دؤوبة لمد جسور التعاون والتبادل العلمي والثقافي مع الجهات المماثلة في الصين، مثل: مركز الملك فيصل، ومركز الخليج، وغيرهما من المراكز البحثية ومراكز صناعة الفكر، ويبرز «مركز البحوث والتواصل المعرفي» بوصفه منصة تفكير وتنفيذ تُحوّل الثقافي إلى «سياسات وبرامج تنفيذية، ويتجسّد ذلك في تنظيم حلقات نقاش وندوات حول التعاون العلمي والثقافي بين الجامعات والمراكز السعودية والصينية، وتوقيع مذكرات تعاون مع مؤسسات بحثية صينية، إضافة إلى توسيع مذكّرات التفاهم مع مختلف الجهات العلمية والثقافية الصينية الفاعلة، هذا الطراز من التعاون «مركز مقابل مركز» يُنتج أبحاثًا ومسوحات وورشًا تدعم صانع القرار الثقافي. وعلى مستوى الإعلام العام، تغطي إذاعة الصين الدولية ووكالة شينخوا وعدة صحف صينية نشاطات المركز وتنشر مقابلات مع مسؤولي المركز والباحثين في وحدة الدراسات الصينية بالمركز، إلى جانب استقبالاتٍ رسمية من المركز لوفود صينية رفيعة المستوى طوال العام، ما يعكس جسور الثقة المؤسسية والإعلامية. وعلى محور التواصل المؤسسي، يبرز سجلٌّ متنوّع للمركز: حضور فعاليات صينية بدعوة من دوائر رسمية وثقافية، وتدشين موقع إلكتروني باللغة الصينية عام 2020م؛ لتأمين قناة مخاطبة مباشرة للجمهور الصيني، وحصوله على درع أفضل شريك من دار «إنتركونتننتال» الصينية؛ فضلًا عن مقابلات إعلامية واستقبالات رسمية تؤكد الاعتراف الصيني بدور المركز. هذه الوقائع توضح أن التبادل بالنسبة للمركز شبكة علاقات عمل وليست مجرّد كتبٍ منشورة. ومن الجدير بالذكر، أن المركز يستقبل بشكل منتظم باحثين زائرين من مختلف الجامعات والمراكز الصينية تتراوح مدة وفادتهم من أسبوعين إلى عام كامل. وفي المقابل يحضر المركز بشكل منتظم وبدعوات رسمية مؤتمرات وندوات علمية في مختلف المدن الصينية، فضلاً عن ابتعاثه عددًا من كوادره للدراسة في الصين. قياس الأثر المعرفي: سجلٌّ سعودي في النشر عن الصين من المهم تقويم «المعرفة السعودية بالصين» وليس فقط «تقديم الثقافة السعودية للصينيين». تكشف دراسة ببليومترية أعدها الدكتور أمين سليمان سيدو منشورة في مجلة «مكاشفات» (المجلد الخامس/العدد الأول، يونيو–أغسطس 2025) التي تصدر عن مركز البحوث والتواصل المعرفي؛ عن رصد 288 مادة منشورة في المملكة عن الصين ابتداءً من عام 1949م حتى منتصف عام 2025م، بينها 66 كتابًا مستقلًا، مع توزيع زمني يبيّن تصاعد الاهتمام خلال العقد (2000 /2010)، واستمرار منحنى الصعود خلال (2020/2025). وتوثّق الدراسة أن أول مادة منشورة عن الصين في المملكة تعود إلى يناير عام 1949م في مجلة «المنهل» السعودية. هذا الرصيد يُبيّن أن الصين حاضرة في المخيال المعرفي السعودي منذ عقود، وأن السنوات الأخيرة نقلت الحضور من التلقّي إلى الشراكة. كما تُظهر مواد أعداد مختلفة من «مكاشفات» استمرار المركز في إصدار كتبٍ بحثية تُلامس موضوع الصين مباشرة أو بصورة غير مباشرة ضمن اهتماماته بالسياسة العالمية والهويات والمعاجم المرجعية، بما يرفد الباحثين بأوعية معلومات وبأدواتٍ بيانية مهمة. الثقافة الرقمية والترجمة والاتصال بالجمهور الصيني كان تدشين مركز البحوث والتواصل المعرفي موقعًا كاملاً باللغة الصينية عام 2020م خطوة مبكرة لتقديم المحتوى العلمي والثقافي السعودي لجمهورٍ واسع عبر لغته الأم، وهو ما يتكامل مع النشر الورقي. وكذلك مكتبة الملك عبد العزيز في الصين التي تُنشئ مكتبة رقمية من الأخبار والمحتوى المعرفي المتخصص، تُسهّل على الصينيين الباحثين والقرّاء الوصول إلى مصادر أولية عن المملكة. ونورد جهود المركز ومكتبة الملك عبد العزيز في هذا الجانب كنماذج لبعض الجهد وليس للحصر. الثقافة والسياحة التجارية والوفود: تكامل المسارات لا تنفصل الوفود التجارية والسياحية عن الثقافة؛ فالعروض الترويجية السياحية في بكين (أكتوبر 2024) لم تقتصر على الوجهات، بل ضمّت عروضًا فنية حيّة وحِرَفًا سعودية، ما جعل التسويق السياحي حاضنة لمحتوى ثقافي. ومع تشغيل رحلات مباشرة وارتفاع الإنفاق الترويجي في السوق الصينية، تبدو الثقافة محرّك طلب لسلعٍ وخدماتٍ إبداعية (أفلام، وموسيقا، وتصاميم، ومعارض)، لا مجرد نشاطات جانبية. في المقابل، تمنح تسهيلات الصين للسعوديين (الإعفاء المؤقت من التأشيرة وإطلاق منظومة التأشيرات الإلكترونية المحدثة عبر السفارة) متنفسًا للنقابات الفنية والجامعات السعودية لتنظيم زياراتٍ مكثّفة خلال «عام الثقافة» وما بعده، ما يرفع وتيرة الإقامات القصيرة المهنيّة المؤثرة. الخطاب المتبادل في الصحافة الصينية: توثيق اللحظة وتوسيع الصورة تُظهر الصحافة الصينية الرسمية وشبه الرسمية تغطية متزايدة للعروض السعودية في الصين، من افتتاح معرض أحمد ماطر في شنغهاي إلى أخبار العام الثقافي والفعاليات المصاحبة، وصولًا إلى مقالات رأي تؤكد أن عام 2025م شهد بالفعل سلسلة أحداث كبيرة وتبادلاً حضاريًا ثقافيًا يتجاوز الاحتفالية إلى نقاشٍ جادٍّ حول التاريخ والفنون المعاصرة. هذا النوع من التغطية يوسّع صورة السعودية لدى الجمهور الصيني بما يتجاوز النفط والاقتصاد إلى الإبداع المعاصر والبحث الثقافي. ما الذي تغيّر؟ من «الفاعلية الرمزية» إلى «البنية المؤسسية» يمكن تلخيص التحوّل في ثلاث نقاط: أولًا، الانتقال من زيارات متفرقة إلى «عامٍ ثقافي» مُبرمج بتواريخ وأماكن وشركاء محدّدين؛ ثانيًا، بناء «بنية تحتية للّغة» داخل المدرسة السعودية عبر معلمين مختصين ومناهج مشتركة، ما يضمن كوادر تتعامل مع الصين مهنيًا على المدى الطويل؛ ثالثًا، تأسيس قنوات مؤسسية في المتاحف والتراث والسينما والنشر، تُعيد إنتاج التبادل سنويًا بمعزل عن تغيّرات الدورات الإعلامية. المؤسسات السعودية الفاعلة (وزارة الثقافة وهيئاتها، وزارة التعليم، والجامعات السعودية الحكومية والخاصة، ومكتبة الملك عبد العزيز، ومركز الملك فيصل، ومركز البحوث والتواصل المعرفي…) نسجت شبكة مع نظرائها الصينيين، من المتاحف الكبرى إلى دور النشر والجامعات ومراكز التفكير. وهذه الشبكة من التواصل والعلاقات هي الضمانة الحقيقية لاستدامة التبادل. تحدّيات على الطريق: الجودة، والتدريب، ونوع القيمة الإبداعية رغم الصورة الجميلة للمشهد الثقافي الواعد، تظل هناك تحديات واضحة يجب رصدها والتعامل معها بسياسات بعيدة النظر ومحكمة الأثر: – الترجمة المتخصّصة : لا يكفي نقل الأدب، إذ يحتاج القارئ الصيني إلى التوسع في ترجمة أعمال سعودية غير أدبية تُعرّف بالاقتصاد والمجتمع والعلوم الاجتماعية؛ كما يحتاج القارئ السعودي إلى توازن في ترجمة الأعمال الصينية بين الكلاسيكيات والفكر المعاصر والسياسات العامة. ولعل في أعمال مركز البحوث والتواصل المعرفي ودراساته وتقاريره ما يشير إلى وجوب الحرص على تنويع الموضوعات وعدم حصرها بالأدب، وهي إستراتيجية ينبغي تعزيزها. – تدريب المترجمين: شحّ الترجمة المتخصّصة العربية–الصينية يستلزم برامج دبلومات قصيرة بالتعاون بين الجامعات وهيئات الترجمة، وربطها مباشرة بمشاريع النشر المشتركة لضمان مخرجات ذات كفاءة علمية يعتد بها. – حقوق الملكية والتوزيع: نجاح أي مشروع نشر يتوقف على الحقوق والتوزيع والترويج. ولعل في مشروع النشر المشترك وجهود مركز البحوث والتواصل المعرفي في هذا المجال نماذج تُظهر أهمية بناء قنوات ترويج بالصين عبر معارض بكين وشنغهاي للكتاب وشراكات مع دور نشر متخصصة مثل: دار «إنتركونتننتال» وجامعات صينية؛ والمطلوب توسيع هذه القنوات إلى منصات رقمية ومؤثّرة في القراءة بالصين، وتوقيع اتفاقيات مع متاجر الكتب الكبرى ومنصات القراءة الإلكترونية. – السينما والتعليم المهني: مذكرة «هيئة الأفلام» و»بونا» الصينية؛ خطوة تأسيسية، لكن الانتقال إلى إنتاج مشترك يتطلب طبقات مكمّلة: وحوافز إنتاج سعودية تستقطب فرقًا صينية، ومسارات اعتماد للمحتوى، وتمويلٍ محسوب المخاطر، إضافة إلى برامج تدريب تقنية مشتركة. – قياس الأثر: ثروة البيانات الببليومترية التي وثّقتها دراسة مجلة «مكاشفات» يمكن تحويلها إلى لوحة متابعة سنوية تُنشر للعامة، تُظهر عدد العناوين المترجمة، حضور السعودية في المكتبات الصينية، أعداد الطلاب، وعدد الفعاليات المشتركة، بما يخلق شفافية تحفّز التنافس المؤسسي نحو نتائج أعلى. اتجاهات جديدة: من المعارض إلى البحث المشترك والسرديات العابرة للحدود يشير مسار عامي 2024–2025م الصاعد إلى ثلاثة اتجاهات تتعزز سريعًا: - التوأمة المتحفية والأثرية: الاتفاقات مع المتحف الوطني الصيني والقصر الإمبراطوري (مع تجديد التعاون الأثري) تعني إمكان بناء معارضٍ كبرى مشتركة منطلقة من إرث طريق الحرير البحرية والبرية والروابط العربية/الصينية القديمة، وهو مجال قابل للتوسّع عبر المبادرات المتبادلة، والبحوث المشتركة، وسردياتٍ جديدة عن تاريخ التبادل. - العام الثقافي بوصفه إطارًا إنتاجيًا: منحة العلاقات الثقافية المختارة (20 مقترحًا) تُمثّل مخزونًا بحثيًا يُترجم إلى توصياتٍ وسياسات ومعارض ومطبوعات؛ ومع الفعاليات الكبرى كالأوبرا والمعارض الفنية، تتأسس كفاءات بشرية من الخبرات المشتركة القابلة للاستدامة. - السياحة الثقافية والتعليمية: حملات الترويج في المدن الصينية مع خطوط طيران مباشرة تُحوّل الجمهور الصيني إلى مشاركٍ في الفعاليات السعودية (مهرجانات، ومواقع تراثية، وعروض موسيقية)، وهو جمهور يمكن خدمته عبر منتجات ثقافية مخصّصة بالصينية (أدلة متاحف، ومسارات أثرية، وتطبيقات إرشادية)، ما يخلق قيمة ثقافية مرتبطة مباشرةً بالطلب الصيني. نموذج مؤسسي سعودي: مركز البحوث والتواصل المعرفي يستحق «مركز البحوث والتواصل المعرفي» وقفة باعتباره نموذجًا سعوديًا يجمع بين البحث والتطبيق. فإلى جانب مشروع النشر المشترك، وثّقت ملفات المركز مشاركاته في فعاليات صينية بدعوات رسمية، وتدشين منصات اتصال باللغة الصينية، وجوائز وتكريمات تعكس جودة الشراكة، فضلًا عن شراكات مع جامعاتٍ ومراكز بحثٍ صينية. هذه العناصر معًا تجعل من المركز «بيت خبرة» للثقافة السعودية في الصين، و»وسيطًا معرفيًا» ينقل المعرفة الصينية إلى العربية بمنهجية وازنة. وعلى مستوى إتاحة المعرفة، أسهم المركز في إعداد دراساتٍ ببليومترية ومسحية حول النشر السعودي عن الصين عبر الكثير من إصداراته ونشاطاته وعلاقاته، ما يضع بين يدي صانع القرار الثقافي قاعدة بيانات دقيقة، ويمنح الباحثين خريطة طريق لتحديد الفجوات الموضوعية والزمنية. كما أن مشروعه للترجمة إلى الصينية يقدم توصياتٍ عملية لتنويع الموضوعات، وإستراتيجيات لتوسيع الترويج، ومنصات تنفيذية تعاون فيها المركز مع جمعيات الصداقة ودور النشر والجامعات الصينية. توصيات عملية لتعظيم العائد الثقافي – تثبيت العامل اللغوي: عبر توسيع مسارات إعداد معلمين سعوديين للصينية داخل جامعات المملكة بشراكات مع جامعات صينية، وتحويل الدفعات الأولى من خريجي المسار إلى برامج تدريب مترجمين متخصصين في الثقافة والعلوم الاجتماعية والاقتصاد. – تحويل «العام الثقافي» إلى منصة إنتاجٍ سنوية عبر توقيع اتفاقات إنتاج مشترك في السينما والفنون الأدائية، وجدولة معارض متبادلة في المتاحف الكبرى، وربط التمويل بمؤشرات أداء واضحة (جمهور/ مبيعات/ تغطية إعلامية بلغات عديدة). – تسريع رقمنة المحتوى بالصينية والعربية عبر منصات وزارة الثقافة والجهات الشريكة، مع بوابةٍ موحدة للفعاليات والموارد (أدلّة متاحف، ومواد تعليمية، ومكتبات رقمية)، وربطها بخدمات السياحة الثقافية. – توسيع الشراكات الأكاديمية إلى مجالات العلوم الإنسانية الرقمية، والتاريخ العام، والأنثروبولوجيا البصرية، والدراسات الحضرية، بما يثري سردياتٍ جديدة تتجاوز المبادرات الفردية إلى قصصٍ حضارية وواقعية معاصرة. – قياسٌ دوري للأثر عبر لوحة مؤشرات سنوية عامة، تتكامل فيها بيانات وزارة الثقافة، ووزارة التعليم، والجامعات، وهيئة الأفلام، وهيئة المتاحف، ومكتبة الملك عبدالعزيز، ومركز الملك فيصل، ومركز البحوث والتواصل المعرفي. من الحدث إلى المنظومة: مشهدٌ متسارعٌ يتجاوز البروتوكولات إلى بناء المعرفة والقدرات الإبداعية يُظهر مسار السنوات الأخيرة أن التبادل الثقافي السعودي–الصيني تحرّر من موسمية الزيارات إلى منظومة شراكة وعمل متعددة المستويات: مدارس تعلم الصينية، وجامعاتٌ تمنح منحًا متبادلة، ومتاحفٌ تتبادل الخبرات، وسينما تتفاوض على الصناديق المشتركة والتوزيع، وسياحةٌ ثقافية ذكيّة، وبحثٌ علمي يقيس وينصح. هذه المنظومة تحتاج إلى من يوجد تكاملها ويحوّلها إلى سياسة واحدة عامة مستدامة. ولعل في نموذج «مركز البحوث والتواصل المعرفي» مثال سعوديٍّ حي، جمع بين النظرية والتنفيذ والشراكات، وأثبت أن مؤسسةً ثقافية سعودية تستطيع أن تكون صانع سياسة ومنفّذًا معًا: وتخطّط، وتقيس، وتنشر، وتبني شبكة علاقات مع دور نشر ومتاحف وجامعات صينية، وتنتج محتوى بالعربية والصينية، وتُشرف على مشاريع نشرٍ مشتركة تُترجم إلى حضورٍ سعوديٍّ حيّ في أكبر سوقٍ ثقافية آسيوية. إن تعميم هذا النموذج مع وزارة الثقافة وهيئاتها ومكتبة الملك عبد العزيز والجامعات وغيرها، هو الطريق الأمثل لتحويل الزخم الحاضر إلى إنجازاتٍ متراكمة تُقاس بالجمهور والكتب والأفلام والمعارض والبحوث… لا بالتصريحات وحدها. للإثراء والاستزادة: •صدور « إعلان الرياض» عن قمة الرياض العربية الصينية للتعاون والتنمية، موقع وزارة الخارجية السعودية https://www.mofa.gov.sa/ar/ministry/statements/Pages/ •تدشين العام الثقافي السعودي–الصيني 2025، وكالة الأنباء السعودية https://www.spa.gov.sa/en/N2276856 •توقيع مذكرة تفاهم بين هيئة الأفلام السعودية ومجموعة بونا الصينية، وكالة الأنباء السعودية https://spa.gov.sa/en/N2075204 •مشاركة هيئة الأفلام السعودية في مهرجان بكين، وكالة الأنباء السعودية https://www.spa.gov.sa/en/N2301636 •مشاركة السعودية في مهرجان شنغهاي السينمائي لتعزيز التعاون الثقافي، صحيفة عرب نيوز https://www.arabnews.com/node/2604311/saudi-arabia •موقع مركز البحوث والتواصل المعرفي: https://crik.sa/ •الصين في إسهامات المركز، مركز البحوث والتواصل المعرفي، الطبعة الأولى، 2024م •دراسة ببليومترية عن الإنتاج السعودي المنشور حول الصين، مجلة مكاشفات، المجلد الخامس، العدد الأول، يونيو–أغسطس 2025م •2016.. عام الشراكة الاستراتيجية بين السعودية والصين، صحيفة الشرق الأوسط https://aawsat.com/home/article/726101/2016 •الهيئة الملكية لمدينة الرياض تقدّم أوبرا «كارمن» بالتعاون مع دار الأوبرا الوطنية الصينية، موقع الهيئة الملكية لمدينة الرياض https://www.rcrc.gov.sa/85410987-2/ •هيئة الأفلام السعودية توقع مذكرة تفاهم مع مجموعة فيلم بونا الصينية، صحيفة الشرق السعودية https://asharq.com/art/83769 / •توقيع هيئتي المتاحف والتراث 4 برامج تنفيذية مع مؤسسات ثقافية صينية، موقع العربية نت https://www.alarabiya.net/saudi-today/2024/10/17 •13)موقع مكتبة الملك عبدالعزيز – فرع جامعة بكين، (الأنشطة) •https://www.kapl.org.sa/event •السياحة السعودية تعزز حضورها الدولي عبر حملة عالمية جديدة تستهدف جمهورية الصين الشعبية، وكالة الأنباء السعودية https://www.spa.gov.sa/N2191131 15) بمعرض للفنان أحمد ماطر.. إطلاق العام الثقافي السعودي الصيني 2025، صحيفة اليوم السعودية •https://www.alyaum.com/articles/6582763 •مبادرة المنح البحثية الثقافية – MOC، موقع وزارة الثقافة السعودية https://www.moc.gov.sa/Modules/Pages/Initiative/InitiativeDetail?id=7744B044-E8AA-4789-A20B-BA714D5C021D=TemplateTwo •تقرير عن تعلم الشباب السعودي للغة الصينية، صحيفة الشعب اليومية الصينية https://en.people.cn/n3/2025/0602/c90000-20322501.html •توقيع خطة العام الثقافي السعودي-الصيتي، صحيفة الشعب اليومية الصينية https://en.people.cn/n3/2024/1019/c90000-20231412.html •معرض ثقافي لمقاطعة يونّان في الرياض، صحيفة الشعب اليومية الصينية https://en.people.cn/n3/2025/0514/c90000-20314596.html •السعودية تؤكد التزامها بتعزيز الروابط الثقافية، صحيفة الصين اليوم https://global.chinadaily.com.cn/a/202410/29/WS672016faa310f1265a1ca100.html •فعالية ثقافية في جامعة سعودية للاحتفال برأس السنة الصينية، صحيفة الشعب اليومية الصينية https://en.people.cn/n3/2024/0131/c90000-20129041.html •إعفاء التأشيرة للسعوديين إلى الصين (2025/6/9–2026/6/8): سفارة الصين في الرياض، ومركز خدمة التأشيرات الصيني. (sa.china-embassy.gov.cn) •تعليم الصينية في مدارس المملكة، ووصول 175 معلمًا صينيًا، وكالة شينخوا. (xinhuanet.com)