بلدة صغيرة، سكانها عشرة آلاف، تتهيأ لصنع المستقبل..

عبدالله نور يرسم صورة الرياض خلال إمارة الأمير سلطان.

* الملك عبدالعزيز كان ينثر الريالات لنا نحن أطفال “شارع العطايف” * الكهرباء أضاءت البيوت في نفس الشهر الذي دخلت فيه قصر الملك عبدالعزيز * أعظم الأحياء “الديرة” و”دخنة” و “الوسيطا” وأقدمها “الظهيرة” * قبل 1370 لم نكن نعرف كرة القدم... وممارستها تحتاج الى اذن رسمي * إذا سال وادي البطحاء يصيح المنادي بالمدارس: اليوم عطلة! * تجار الأحساء أول من أنشأ المطاعم في الرياض * العصافير الملونة ملأت سماء الرياض بعد اسبوعين من المطر المتواصل * متعة التسوق في رياض السبعينات كانت في “سوق الزل” * كتاب “الحيوان” كان ممنوعا في مكتبة المعهد العلمي -------- في مناسبة اليوم الوطني الخامس والتسعين للمملكة العربية السعودية، تكتسب العودة إلى البدايات الأولى لعاصمتنا الرياض قيمة مضاعفة؛ فهي ليست مجرد استدعاء للتاريخ، بل إطلالة على ملامح وطن وهو يتهيأ لرحلة نهضته الكبرى. ومن بين الكتب التي وثّقت تلك المرحلة، يبرز كتاب “سلطان والرياض: ذكريات لا تُنسى” للكاتب عبد الله نور، الذي أعدّه للنشر الأستاذ خالد بن حمد المالك، رئيس تحرير جريدة الجزيرة، وهو من اصدارات الجزيرة. يقدّم الكتاب صورة نادرة عن مدينة الرياض خلال الفترة التي تولى فيها الأمير سلطان بن عبد العزيز - رحمه الله - إمارتها على مدى سبع سنوات، حيث يروي عبد الله نور بأسلوب أدبي مشوّق قصصًا وأحداثًا وطرائف عن الأمير وعن المجتمع والعاصمة آنذاك، موثقًا تفاصيل لم يُكتب عنها من قبل. وفيما يلي نعرض مقاطع مختارة من الكتاب، ترسم ملامح الرياض في تلك الفترة، وتكشف كيف كانت العاصمة تخطو أولى خطواتها نحو المستقبل: سكان الرياض كانوا عشرة الاف نسمة -إذا شئت أن تحظى بصورة دقيقة عن مدينة الرياض قبل خمسين عاماً، تذكر أن مسجدها (الجامع) مسجد الإمام تركي بن عبدالله هو مسجدها الكبير، أو كما قلت هو مسجدها الجامع، ومن حوله تستدير بيوت الرياض ومرافق الرياض وأسواقها، استدارة السوار بالمعصم. -تخطيط الرياض: قلب المدينة هو المسجد، وبجواره قصر الحكم، فمنازل الحاكم هذا من جهة، ومن جهة أخرى سوقها المركزي التجاري وهو في الصفاة على نحو ما هو عليه الآن، مع فارق في التشييد والفخامة.. -بلدة صغيرة لا يتعدى مجموع سكانها عشرة آلاف نسمة. كلهم من الكبير إلى الصغير، من القاطن إلى الوافد، ومن المقيم إلى العابر، يعرفهم أمير الرياض، أو يعرف معظمهم. -هذه هي الرياض، بيوت طينية متلاصقة مشدودة إلى بعضها بعضاً، كي لا تعطي (اللصوص) فرجة للتسلل، أو زلفة للتسلق، وأسواقها ضيقة متعرجة مع تعرج الغدران القديمة، أو (الشعبان) المطمورة، يكاد أوسعها لا يسمح لأكثر من بعيرين متوازيين متظاهرين، وهي ترتفع أو تنخفض بحسب طبيعتها الأولى… وبعض أسواقها مسقوف بالجريد. -أعظم الأحياء بعد حي (الديرة) وفيه آل سعود الكبار، فهو حي دخنة، وحي الوسيطا، وحي الحنبلي، وأقدمها حي (الظهيرة)، وأنا من المحظوظين فقد رضعت من بئر (قعيشيشه) الكائنة في قلب (الظهيرة). - ماء الرياض بوجه عام هماج خمجرير، وربما من جوهر هذا الماء ومعدنه ترى في طباعنا نحن أهل (الظهيرة) بعض النزارة أو بعض الزمرة. -فجأة وبينما نحن في أول الضحى من صباح يوم مشرق صاح، نادى المنادي في المدرسة بأن باقي هذا اليوم عطلة. لقد سال وادي البطحاء؟! كيف سال؟! جاء من موارده في الفجر والنفر القليل الذي عرف بهطول الأمطار في مصادره الملك والأمير سلطان وبعض الأمراء الكبار. وجادت السماء بتهطال دام أسبوعين لبست بعدها البلدان الأعاجيب من فاخر الحرير الذي نسجته السماء وحاكته الأرض بالمناقير الصغيرة للعصافير الملونة. كل العالم يخرج إلى البر، الملك، والأمراء، والتجار، والعوائل، والعزاب، والطلبة، والمرضى، والأغراب، وحتى اللصوص، والأفاقون. ادخال الكهرباء في الرياض -نحن الآن على أواخر العام السبعين (1370هـ) ... الجميع من سكان (الرياض) خلال أربع وعشرين ساعة من دخول الكهرباء إلى (قصر الملك عبدالعزيز)، شاهدوا العمال يصعدون السلالم، ويطرحون الأسلاك على جدران بيوتهم، ويشدونها بكلاليب من حديد، ثم يسحبونها إلى قصور الأمراء في (الحنبلي)، في (العطايف)، في (دخنه)، في الشرق والغرب، في الشمال والجنوب، وتدافعنا بفعل قوة غامضة، فصرنا نختلس بالمشابك (لمبة) لكل بيت، ثم في غضون شهر كامل كانت (الرياض) مضيئة -فلنتجول في الرياض في سوقها الشعبي في عهد إمارة سلطان، وهذه هي (المقيبرة)، سوقها الشعبي كان قبل توحيد المملكة لا يرُى فيها إلا قليل من الباعة من أهل الرياض الذين سكنوها في عهد الإمام عبدالله الفيصل، عوائل محدودة لا تتجاوز أعداد الأصابع العشرة وعدد آخر كلهم في حدود عشرين إلى ثلاثين عائلة، وزادت الأعداد من الأقاليم، من الوشم، وسدير، والأحساء، والقصيم، وحائل، واخرون من أقاليم أخرى، ثم لا تخطئ العين أفراداً من الجالية التركستانية، والجالية البخارية، ثم لا تخطئ العين أفراداً من نواحي الحجاز، موظفين، أو عطارين، أو تجاراً، أو صيارفة متجولين. -في سوق (المقيبرة) عدد وفير من تجار الأحساء، فهم هنا محترفون في بيع البقولات كالبهورات والأبازير والمحمصات والمكسرات، وبيع الأواني المنزلية وحاجيات الزراعة والحدادة والتجارة، وفي السوق المركزي / قيصرية ابن كليب / أو سوق (السدرة) مختصون في بيع الملابس، وخياطتها، وبيع المشالح وحياكتها، وهم أيضاً في (المقيبرة) أصحاب المطاعم الفقيرة البائسة ولا يوجد في كل الرياض غير مطاعمهم هذه.. أما (المقصبة سوق اللحم / سوق الجزارين) فهذه كلها من أولها إلى آخرها للوافدين من خارج الرياض. -أما غير هؤلاء في (المقيبرة)، فلا يوجد من أهل الأقاليم النجدية إلا في سوق (الجفرة) وهي سوق مجاورة للمقيبرة، فيها تباع التمور وأكياس الرز والسكر والهيل، بالمفرق أحياناً، وبالجملة في الغالب، والغالب في أهل هذه السوق اتجارهم بما يسمونه (الوعدة/ الدينة)، يبيعون العشر بفائدة محسوبة على المبيع -وفي جهة أخرى محاذية لسوق (المقيبرة)، يقع سوق (الحرفيين)، أو سوق (العمال)، كالحدادين والنجارين والخرازين والباعة المتجولين لأغراض أخرى. وأبرز ما في هذه السوق باعة الأحذية والجلديات ونحوها، وهذه (للبخارية) من أهل بخارى، وليس في سوقهم من ينافسهم إلا سعودي أو سعوديان. أما مهنة إصلاح (البنادق) وصقل السيوف ونحوها فاختص بها سعوديان فقط، على أن المرء الذي يريد أن يجلب لنفسه متعة التسوق أو التجول فليذهب إلى سوق الزل/السجاجيد. طرائف لاتنسى -في العام 1371/ 1370 تم افتتاح معهد الرياض العلمي وبعد أن تكامل وصول الأساتذة من مصر ومن الحجاز، قرر المفتي الأكبر ورئيس المعهد دعوتهم إلى تناول طعام الغداء في نخل له في الدرعية. -كان في الرياض آنذاك مكتبات منزلية ضخمة وشاملة، تكتظ بها قصور أبناء الملك عبدالعزيز، وقصور النابهين من الأمراء الآخرين، وهناك مكتبات لا نظير لها عند الأمير عبدالله بن عبد الرحمن والأمير مساعد بن عبدالرحمن. ريالات الملك عبدالعزيز للاطفال -لم أحظ بمصافحة الملك عبد العزيز، رغم كونه يزور أخته الأميرة الجوهرة بنت عبد الرحمن في شارع العطايف، كنت مع أقراني أرمقه من بعيد وأنتظر اللحظة التي تقف فيها سيارته، فإذا هم بالنزول منها نزع بيده من داخل لكيس ريالات ونثرها أباديد لنا معشر الأطفال، فنتراكض ونتعارك، وكل واحد يولي إلى داره ومعه مقدار ما يسعه نشاطه من الغنيمة.. -أهل الرياض من الطلبة بصورة عامة قلائل بالقياس إلى أهالي الأقاليم، وقد بدت عليهم مخايل النعمة التي طرأت بعد توحيد الملكة قبل غيرهم من زملائهم، وأكثر الطلبة من أهل الرياض من أبناء آل الشيخ، ومن عوائل أخرى. -كانت مكتبة (المعهد العلمي) أكبر مكتبة في الرياض بعد (المكتبة السعودية) ويعود الفضل في إنشائها للوالد الشيخ العلامة حمد الجاسر، إذ كان في تلك السنوات معاوناً للمرحوم الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية. كان يشرف عليها بنفسه، ويلاقي أهوالاً جساماً في تزويدها بكل المراجع.. ومن ذا يصدق أن كتاب (الحيوان) للجاحظ ممنوع دخوله المكتبة لأن الجاحظ معتزلي... وبعد لأى ومشقة تمكن الجاسر من إقناع المسؤولين بإدخال كتاب (الحيوان). (الطابة) في عهد امارة سلطان للرياض -أما (الطابة) وما أدراك ما الطابة، هذه التي يسمونها الآن (كرة القدم) فحتى عام السبعين بعد الثلاثمئة والألف هجرية لم نكن نعرفها في الرياض، عرفناها من الموظفين القادمين من الحجاز للعمل في ديوان الملك أو في ديوان ولي العهد. -وحدهم فقط كبار الموظفين الذين يمتلكون السيارات كانوا يلعبونها خارج الرياض بلباس رياضي شبه متكامل إلا (السراويل)، فقد كانت تغطي الجسم من السرة إلى الكعبين، وهؤلاء منتظمون على شكل فريق كامل وإن كان البعض (عاري القدمين) فلا بأس، والبعض لديهم الأحذية المعروفة، وعندهم ملعب أو ملعبان مخططان ومجهزان بالأبواب الخشبية. وحدهم هؤلاء هم الذين لديهم (اذن رسمي) حصلوا عليه بعد أن دفعوا عليه ثمناً غالياً ويا له من ثمن!.. سلطان اميرا للرياض حين كان عمره ١٣ عاما -تولى الأمير سلطان بن عبدالعزيز إمارة الرياض سبع سنوات للفترة من 15/4/1366هـ لغاية 1/4/1373هـ وعمره آنذاك في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة أو أقل أو أكثر بقليل، وكان عمر الرياض أيضاً في عمر الفتاة العذراء محاطة بسور من الطين المجدول أو المعروق، ولها عدة (دراويز بوابات) ضخمة على هيئة الدروازة الطينية التي ترونها الآن في ساحة دخنة، ومساحة الرياض كلها كيلو في كيلو أو أكثر بقليل، وسكانها بضعة آلاف لا تزيد على العشرة إلا بعد أن تولاها سيدي الأمير نايف ثم سيدي الأمير سلمان. وأبرز هؤلاء السكان عوائل ممن عرفت عريقون في قدمهم في مدينة الرياض منذ أن كان اسمها حجر، وبعضهم يرجع في نسبه إلى قبيلة عنزة كآل عمران وآل عبيكان وآل ثنيان وآل عبد القادر وهم من آل عمران من عنزة، وآل المرشد وغيرهم. وهناك من يرجع في نسبه إلى قبيلة حنيفة بن بكر بن وائل وهي كقبيلة عنزة سكنت الرياض (حجرا) قبل ألفي سنة تقريبًا، ومن حنيفة أيضاً آل الشميسي. وتأتي قبيلة تميم في المرتبة الثالثة في سكنى اليمامة بعد عنزة وحنيفة، وأكبر عائلة تميمية سكنت الرياض وشاركت عنزة وحنيفة عائلة آل الشيخ. نادي المعهد العلمي -يوم الخميس يكون طلبة معهد الرياض العلمي، والمدرسون، والعلماء والقضاة والمثقفون من أهالي الرياض على موعد لارتياد (نادي المعهد) الذي يبدأ من بعد صلاة العشاء مباشرة، ويتقدم الجميع سماحة المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم ومعه الشيخ عبد العزيز بن باز. - المعهد كان في الأصل قصر الملك فيصل بن عبد العزيز نائب الملك في الحجاز، كان أكبر قصر أدخله في حياتي، فلله ما أبهى بابه العالي كأنه في تصوري من أبواب الخلفاء، وما أبهى هذا النور الساطع من (هذه اللمبات) وهي منظومة في عقودها المدلاة فوق الأعمدة. إنها المرة الأولى التي أسمع فيها قعقعة (المايكروفون).