«الخطاب السياسي السعودي لدى فيصل بن فرحان» ..

بلاغة الحِجَاج في مرايا السياسة .

في زمن تتكاثر فيه القراءات السطحية للخطاب السياسي، يبرز كتاب جديد يذكّرنا بأن الحجة ليست ترفًا لغويًا، بل هي روح السياسة ومفتاح الإقناع. حين تجتمع الفكرة العميقة مع البيان البليغ، يتشكل خطاب يعلو على ضجيج اللحظة، ويصير أثرًا باقيًا في الذاكرة الثقافية والسياسية معًا، هذا ما يقدمه الدكتور علي بن عالي المطيري في كتابه: الخطاب السياسي السعودي المعاصر لدى الأمير فيصل بن فرحان آل سعود: رؤية حجاجية تحليلية، كتابٌ يستوقف القارئ بصرامته المنهجية وأناقة عبارته، ويعكس قدرة مؤلفه على تطويع أدوات البلاغة والحجاج لخدمة فهم السياسة في سياقها المعاصر. ليس الكتاب سردًا لمواقف أو تجميعًا لأقوال، بل هو محاولة واعية لاستخلاص الروح التي يقوم عليها الخطاب السياسي السعودي، ومن يطالع صفحاته، يدرك أن الأمير فيصل بن فرحان لا يكتفي بممارسة السياسة من بوابة المواقف الدبلوماسية، وإنما يمارسها من بوابة الكلمة المحسوبة، واللغة المحكمة، والحجة النافذة المستندة إلى رؤية سياسية تتكامل مع سياسة المملكة ودبلوماسيتها، وهنا تتبدّى براعة الدكتور علي المطيري، إذ أحسن استنطاق الخطابات والبيانات الصادرة عن وزير الخارجية السعودي، وكشف عن أسرارها البلاغية التي ربما تمرُّ على المتلقي العادي دون أن يلتفت إليها. إن القيمة الكبرى لهذا العمل أنه يجمع بين التحليل السياسي والوعي البلاغي، فيعيد للقارئ ثقة أن الخطاب السياسي ليس محض تصريحات آنية، بل هو بناء متكامل له مقاصده وغاياته، ولم يبتدع علي المطيري ذلك النهج الأصيل في التراث العربي الزاخر، فلا زلنا نتدارس الرسائل السياسية المحملة بالإبداع كرسائل عبد الحميد الكاتب والجاحظ ومن سار على نهجهما من الأدباء العرب في مختلف الأقطار والأمصار، لذلك يصبح الكتاب بهذه الانطلاقة إضافة نوعية في مجال الدراسات الحجاجية، وإضاءة مهمة لفهم كيفية ممارسة السياسة السعودية حضورها في عالم متشابك بالتحالفات والأزمات. أسرني ذلك التحليل العميق، وتلك الاستنباطات المحكمة المرتكزة على الحجاج وآلياته في خطابات وزير الخارجية السعودي، مع براعة قوية في تقسيم الكتاب إلى فصول جامعة لمباحث الحجاج وعناصره، ففي الفصل الأول، وقف على مضامين الحجاج السياسي، كاشفًا عن بُنى الخطاب ومقاصده، ومبرهنًا على أن الحجاج ليس زخرفًا لغويًا، بل هو أداة إقناع وتثبيت للحقائق في العقول، ثم جاء الفصل الثاني ليضيء الاستراتيجيات الحجاجية في خطاب الأمير فيصل بن فرحان، مبيّنًا كيف تتداخل عناصر البيان والبرهان في نسيج واحد، يجعل الخطاب قادرًا على مواجهة تحديات السياسة المعاصرة، والفصل الثالث، فقد فصّل القول في الآليات الحجاجية، كاشفًا عن الأدوات اللغوية والبلاغية التي استحالت جسورًا تصل الخطاب بالمتلقي، وتحوّل المواقف السياسية إلى قناعات راسخة، والرابع تناول المؤلف غايات الحجاج، محللًا الأفق الذي ينفتح عليه خطاب الأمير، وكيف يوظّف بلاغة القول لخدمة مقاصد الدولة، وإبراز رؤيتها الثابتة في ثوب مقنع ورصين، وهذا يشعر القارئ بتكامل الفكرة وتضامن العناصر، مما يشعر المتلقي بتشابك الفصول وتتابعها بمنطقية بديعة، فيقرأ الكتاب بتمعن ونهم حتى يصل نهايته. وفي خاتمته، يترك المؤلف بصمته الخاصة، التي تنم عن رؤية متزنة، ووعي نقدي حاد، وأسلوب يزاوج بين الدقة الأكاديمية وجزالة البيان. إنها خاتمة تُشعر القارئ أن المؤلف لم يكن مبرزًا للمعنى فحسب، بل كان صانعًا لرؤية متكاملة، تعكس تمكنه من تخصصه، وتُثبت أن المملكة حين أعلنت رؤيتها الطموحة 2030م، إنما فتحت المجال لأمثاله كي يتبوأوا المكانة التي يستحقونها. إن هذا الكتاب شاهد حي على أن الحجة، حين تلتقي بالسياسة، تُثمر خطابًا قادرًا على أن يُقنع ويؤثر، ويظلّ راسخًا في وجدان المتلقي، تمامًا كما أراده مؤلفه أن يكون: علمًا نافعًا، وبيانًا بليغًا، ودلالةً على أن الكلمة الرصينة هي جوهر القوة الناعمة للمملكة.