
السينما تصنع زمنها وأحداثها الخاصة داخل الزمن وبموازاته بشكل عجيب، تتنقل ما بين الماضي والحاضر ثم تعود إلى اللحظة، محملة بالحنين ممتلئة بالزمن كفكرة غير قابلة للتشريح، ثم القفز على المسلمات والنحت في الزمن ذاته، وكل الفنون ظهرت مدفوعة برغبة روحية، ووظيفة السينما هي طرح الأسئلة المتعلقة بالزمن بطريقة رفيعة وبارزة، فبحركة كادرات الشاشة يأتي إلينا العالم المتخيل ويصبح شيئاً حقيقياً. هذا الأسبوع أكتب عن «النحت في الزمن»، وهو كتاب ممتع عن السينما برؤية فلسفية وروحية للمخرج الروسي» أندريه تاركوفسكي»، و يُعد كتاب (النحت في الزمن( واحداً من أهم الكتب التي كتبت عن فن السينما من داخلها، إذ ألّفه المخرج الروسي «أندريه تاركوفسكي» ليكشف عن فلسفته الفنية ونظرته الخاصة للسينما كفن يتجاوز مجرد السرد أو الإبهار البصري، والكتاب ليس مجرد دليل تقني لصنّاع الأفلام، بل هو تأمل فلسفي عميق في طبيعة الزمن والذاكرة والمعنى الذي يمكن للفن أن يخلقه، و «أندريه تاركوفسكي» يُعتبر أحد أبرز المخرجين في تاريخ السينما العالمية، وقد عُرف بأعماله التي تمزج بين الواقعية الشعرية والتأمل الفلسفي مثل «أندريه روبليف» «المرآة» و»الحنين» وفي كتابه (النحت في الزمن) حاول أن يشرح رؤيته حول ما يجب أن تكون عليه السينما، وكيف يمكن للفنان أن يتعامل مع الزمن كمادة خام للفن، يقول «تاركوفسكي» في مقدمة الكتاب «إن فن السينما بالنسبة إليّ هو فن الزمن، أعتبر أن مهمتي كمخرج هي أن ألتقط الزمن في شكله الواقعي، أن أخلّده، أن أنحته» وهذا التصوّر يجعل من السينما فناً ميتافيزيقياً بامتياز يتجاوز حدود السرد التقليدي والوظيفة الترفيهية، فهو يرى أن السينما فنّ الزمن قبل أي شيء آخر، فهي لا تجمّد اللحظة كما تفعل الصورة الفوتوغرافية، بل تقبض على الزمن وهو يتدفق، ومن هنا جاءت استعارة النحت في الزمن فالمخرج يشبه النحّات الذي يزيل الزوائد عن كتلة خام حتى يحرّر الشكل الكامن فيها، وبالمثل على المخرج أن ينحت الزمن ليكشف جوهر اللحظة ويمنحها معناها، فمهمة المخرج هي الإمساك بالزمن وتجسيده بصرياً وصوتياً بحيث يشعر المشاهد به ويختبره لا فقط كأحداث بل كحالة وجدانية، كما أن الصورة الفنية الصادقة مبنية على الارتباط العضوي، ما بين الفكرة والشكل، وأي اختلال بينهما سيحول دون الوصول للإبداع في الصورة الفنية. والفن عنده ليس مجرد ترفيه، بل وسيلة للبحث عن الحقيقة والمعنى والسمو الروحي، ويؤكد أن الفنان يحمل مسؤولية أخلاقية تجاه جمهوره. أما عن أسلوب تاركوفسكي كمخرج فهو يعتمد على لقطات طويلة وحركة كاميرا بطيئة، وعناصر رمزية تحفّز المشاهد على التأمل بدلاً من الاستهلاك السريع للحدث، وهو يشدد على أن الفن يعيد بناء تجربة الإنسان مع الزمن لذلك يستحضر الذكريات والحنين ويعيد تشكيلها داخل وعي المتلقي، نستطيع أن نصف كتاب «النحت في الزمن» كنص فلسفي عميق يناقش معنى الوجود والزمن والفن، وقد يستفيد منه المخرجون وصنّاع الأفلام لفهم كيفية توظيف الزمن درامياً وجمالياً، كما سيجد فيه القراء العاديون متعة فكرية وتأملية في فهم الفن والحياة، وهو عمل فريد لأنه يكشف عن عقلية مبدع رأى السينما كفن مقدّس، له القدرة على سبر أغوار النفس البشرية والتعبير عن أعمق همومها، من يقرأ هذا الكتاب لن ينظر إلى السينما بالطريقة نفسها بعد ذلك، بل سيبدأ في تذوق الزمن نفسه داخل الصورة. يقول «تاركوفيسكي» إن تجربة معرفة الذات الأخلاقية والمعنوية هي الغاية من حياة كل فرد، وهي محاولة متكررة طوال حياته، أي أن الإنسان يقيم علاقة ما بين نفسه والعالم ويعيد الكرة، وهو توق لإحراز توحد مع المثال خارجه وعدم تحقيق ذلك التوحد وعدم كفاية أناه الخاصة هو مصدر شقاء الانسان وألمه الدائم وشعوره بعدم الاشباع. ومن أجمل ما كتبه: أن الفن لا يجب أن يسعى إلى إرضاء الجمهور، بل إلى رفعه إلى مستوى أعلى من الوعي، وبهذا ينسف الرؤية الشائعة لصناعة السينما التي تردد دائما أن «الجمهور عايز كده» وربما كانت مهمة السينما الجيدة خلق جمهور واع وجيد. يلعب عنصر الذاكرة دوراً مركزياً في فلسفته، فالسينما بالنسبة له وسيلة لاستعادة ما فُقد وإعادة تشكيله داخل وعي المشاهد، ففي فيلم المرآة مثلاً يقدّم المخرج سلسلة من المشاهد التي تتنقّل بين الماضي والحاضر، الواقع والحلم، لتصبح الذاكرة مادة الفيلم الأساسية، فالسينما تعيدنا إلى الزمن الذي مضى وتجعلنا نعيه كما لو كان يحدث الآن. والكتاب يشكل مرجعاً أساسياً لكل باحث في نظرية السينما، فهو يقدّم إطاراً فكرياً لفهم العلاقة بين الفن والزمن والروح، ويفتح آفاقاً جديدة أمام صانعي الأفلام الذين يسعون لتقديم سينما تتجاوز السرد التقليدي نحو التعبير الفلسفي والشعري. والكتاب ليس مجرد شهادة شخصية لمخرج عبقري، بل بيان جمالي عميق يكشف إمكانات الفن السابع في الإمساك بالزمن والارتقاء بالوعي الإنساني، ومن يقرأ هذا الكتاب يدرك أن السينما ليست فقط حكاية تُروى أو صورة تُشاهد، بل تجربة وجودية تدعونا إلى التأمل في معنى الحياة ذاتها، وسأختم باقتباس جميل من «النحت في الزمن» يقول صاحبه «إن أحد اكثر المظاهر المثيرة للأسى في زمننا هو التدمير الشامل لوعي الناس بكل ما هو جميل، فالحضارة الجديدة قائمة على الاستهلاك، فهي تشل أرواح البشر وتقيم الحواجز بين الإنسان وأسئلته الحاسمة بشأن وجوده ووعيه ككائن روحي، والفنان الحقيقي لا يمكن أن يسد أذنيه أمام نداء الحقيقة، فالفنان الذي يفتقر إلى الإيمان هو أشبه بالرسام الذي ولد كفيفاً». *يقع الكتاب في 245صفحة وبترجمة رائعة للمترجم «أمين صالح».