مركز الملك عبد العزيز للتواصل الحضاري..

حوار هادئ لا يقصي الآخر.

في ظل انطواء ثقافة الحوار، وغياب قيم التسامح، وهشاشة التعايش السلمي، بما أفضى إليه من تفسخ الروابط الإنسانية بصورة مأسوية، وتصدع النسيج المجتمعي بشكل صادم، استشعرت كوكبة مضيئة من الفلاسفة، خطورة ما ترتب على ذلك من تداعيات على الحياة الإنسانية، فعملت على تطوير نظريات الحوار والتواصل، ومن أبرزهم الفيلسوف النمساوي “مارتين بوبر 1878 – 1965م” الذي أسس ما يُعرف بفلسفة الحوار التي تقوم على فكرة “أن الحوار الحقيقي يتطلب الاعتراف بالآخر كذات مستقلة لها كرامتها وحقوقها، وليس مجرد موضوع للتأثير أو الإقناع” وإذا كان “مارتن بوبر” قد وضع أساسًا مبدئيًا للحوار فإنني أضيف أساسًا آخرًا وهو الإقرار بحق الآخر بتبني ما يشاء من قناعات فكرية – سلمية - أما الفيلسوف البريطاني “برتراند راسل 1872 – 1970م” فقد “أكد على أهمية العقل والمنطق في عملية الحوار، ودعا إلى تجاوز الأحكام المسبقة، والتعصبات الثقافية المقولبة، وذلك للوصول إلى فهم أعمق للآخر” بعيدًا عن الانحياز التوكيدي تلك الحالة النفسية التي تدفع المرء – لا إراديًا - إلى البحث عن المعلومات التي تؤيد القناعات المعلبة، وترفض تلقائيًا أو تتجاهل أو تقلل قيمة ما يخالفها من قناعات. وقال أيضًا “لا تَسْتَخْدِم القوة لقمع أي آراء تعتقد أنها باطلة، لأنك لو فعلت فستقمعك الآراء في النهاية” وبناءً على ما سبق فإن الحوار الهادف والبنّاء يتطلب تجردًا من الأهواء الشخصية والأحكام الانطباعية التي تنتهي بـرؤى مشوهة، وقرارات غير عقلانية تمتد إلى مجالات حياتية متعددة. وتوجهًا نحو الحقيقة الأزلية، كما ورد في الآيات الكريمة “قل من يرزقكم من السماوات والأرض قٌل الله وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضَلال مبين. قُل لا تُسْألون عما أجْرَمْنَا، ولا نُسأَل عما تفعلون. قُل يَجْمَعُ بيننا رَبُنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم” الآيات 24و25و26 – سورة سبأ. وقال تعالى “ولو شاء رَبُكَ لجعل الناسَ أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين” الآية 118 – سورة سبأ. كما قال تعالى “ولولا دفع اللهِ الناسَ بعضهم ببعضٍ لفسدت الأرضُ، ولكن الله ذو فضلٍ على العالمين” الآية 251 – سورة البقرة. وعلى هَدِي هذه المبادئ الربانية السامية وتلك القيم الإنسانية العالية، التي جميعها تؤكد أن الأصل في الحياة هو الاختلاف، انطلق “مركز الملك عبد العزيز للتواصل الحضاري” في “المملكة العربية السعودية” الذي تأسس ليكون نموذجًا متميزًا نحو تعزيز الحوار الحضاري على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وإرساء الاختلاف في سياقه الطبيعي، فقد اجتهدَ “المركز” منذ تأسيسه في عام 1424هـ/2004م على ترسيخ ثقافة الحوار ونشرها بين أفراد المجتمع السعودي بجميع فئاته وكافة أطيافه من خلال مجموعة من الأهداف المحددة والواضحة، حيث يعمل على مناقشة الملفات الوطنية - الاقتصادية والإدارية والاجتماعية الثقافية والتربوية - وطرحها من خلال قنوات الحوار الفكري وآلياته المتنوعة، ويسعى إلى تشجيع الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني على المشاركة في الحوار الوطني، و الإسهام باقتراح الحلول المناسبة، عبر توفير منصاتٍ حيويةٍ وفرصٍ مناسبة لهذه المشاركات. وهذا الهدف يعكس إيمان “المركز” بأهمية المشاركة المجتمعية الواسعة في دينامية الحوار، وأن الحوار الحقيقي لا يمكن أن يكون حِكرًا على النخب أو الخبراء أو المثقفين فقط. هذا ويبذل “المركز” جهودًا كبيرةً للإسهام في إنجاز برامج “رؤية السعودية 2030” وتحقيق مستهدفاتها الطموحة، من خلال مواءمة برامجه المتميزة، وأنشطته الوثُّابة مع أهداف هذه الرؤية المباركة. وهو ما يجعل دوره أكثر أهمية وإلحاحًا في المرحلة الحالية من تاريخ المملكة. تألق تأثير “مركز الملك عبد العزيز للتواصل الحضاري” ليرقى إلى المستوى العربي، حيث شارك في العديد من المؤتمرات والفعاليات العربية التي تهدف إلى تعزيز الحوار بين الثقافات العربية المختلفة. وعلى صعيد العالم الإسلامي، واستشعارًا للتنوع الطائفي والفكري، الذي يرسم أجزاء خريطة هذا العالم تبنى “المركز” دورًا مهمًا في تعزيز الحوار بين المذاهب والتيارات الإسلامية المتعددة، من خلال التأكيد على الوحدة الراسخة للأمة الإسلامية، والبحث عن القواسم المشتركة بين مكوناتها، ليكون هذا التنوع نبع ثراء خَلّاق لا بؤرة شقاق واختلاف. أما على المستوى العالمي، فقد حقق “المركز” إنجازات مهمة في مجال الحوار بين الحضارات والثقافات، حيث كان له حضورًا متألقًا في العديد من المبادرات والمحافل الدولية التي تهدف إلى تعزيز التفاهم بين الشعوب والثقافات المتنوعة. وبناءً على كل ما ذُكِرَ آنفًا يمكننا القول - بثقة - إن هذا “المركز” المتألق بما يحمله من رؤية واضحة، ورسالة رصينة ومبادئ سامية، وما يحققه من إنجازات باهرة، يمثل أنموذجًا رائدًا للمؤسسات الحضارية التي تسعى إلى بناء جسور التفاهم والتواصل بين الثقافات والحضارات المختلفة.، وتحقيق إنجازات مهمة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، مؤكدًا أن “المملكة العربية السعودية” عبر مثل هذه المبادرات الريادية، تتسنم ذروة المجد والتمكين لتعزيز السلام والاستقرار والتفاهم العالمي. في الختام يبقى الحوار – بمفهومه الإنساني والحضاري - هو الأمل الأكبر للإنسانية في مواجهة الاستحقاقات المعاصرة والتحديات المستقبلية، وبناء مستقبل آمن ومستقر وزاهر للأجيال القادمة. وأن مؤسسات مثل “مركز الملك عبد العزيز للتواصل الحضاري” تمثل منارات إشعاع على هذا الطريق الطويل نحو عالم أكثر إنسانية وأوسع تحضرا.