
الباحث المدقق عن الإبداع في القصص القصيرة عادة ما يجد الفرص قليلة في العثور على تجربة قصصية مهمتها احتواؤه وليس فقط لتمنحه الوصول إلى القصص في هيئاتها الظاهرة المكتوبة على الورق. هناك قصص تسمح بهذا الوصول، ولكن ليس إلى مدى أبعد. ذلك يعني أن التعرف العابر قد حدث، وما من شيء يوحي أن في هذا الاقتراب السهل متعة. بل قد يحرك في القارئ شهية الخروج دون انطباع محدد عن فكرة العودة. هناك قصص تقرأ لمرة واحدة، ويعد هذا من أساليب التعذيب الذاتي الحتمية التي تنشئها الاختيارات العشوائية أو رغبة الاقتناء لمجرد الاطلاع وحسب. الفشل في النفاذ من القصة على أنها مجرد كتلة ملقاة على الصفحة، هو الفشل نفسه في إيجاد سبب مقنع عن الحكمة من الاقتناء، فمجرد الرغبة في الاطلاع لا يكفي ليكون الكتاب على درجة من المشروعية في وصفه بالماتع أو المدهش. وللخروج من هذا الجو الخانق، يتعين على القارئ أن يبحث عن تطهر ما، ولن يجده إلا في تجربة قصصية تأخذه إلى ما وراء الهيئة المكتوبة، إلى العوالم التي تنتجها الكتابة المدفوعة بالفن إلى الفن، ثم إلى الخبرة الروحية في تقديم وجبة فنية تقيه التلف الذوقي. هناك وليمة متنوعة من المواضيع المسرودة لإطلاق إمكانات القراءة في شكل حر، ومن أهم ملامح هذه الحرية، أن تمنح القصة قارئها سبباً متقناً في استبعاد الشك بجودة النص. وذلك ليس بالتفاوض، وإنما بالدخول مباشرة في مرافقة النص إلى مدى أبعد. وما الذي يهيئ هذه المرافقة سوى إمكانات النص نفسه في الابتعاد عن تفسير نفسه على نحو متكلف أو قسري؟ إنه يعطي القارئ حرية القراءة، والقراءة حرية، لأن هذا هو البرهان الأساس على وصفه بالجودة والعمق والإتقان. فاللغة تتسم بثراء يمنح التأويل سلطان المخيلة ومكنة الاكتشاف وقوة الحوار الذاتي. والكاتب الذي يحب كتابة القصة القصيرة ويشغف بها، يدرك حين يجد مثل هذه التجربة، أن حبه للقصة القصيرة لم يكن حباً تقليدياً بحكم الاعتياد وإنما ليجد السبب الرئيس في حبها وهو إعادة تشكيله بطريقة ليست مهيأة في الحياة العادية والأحوال العادية والقصص القصيرة العادية. هذه هي المفاجأة التي عليه أن يكتشفها بنفسه. في مجموعة «وجوده رمادية» للقاصة نوال السويلم، لقيت حركة القراءة تمر بموضوع القصة على أنه كائن حي، فهو يتلفع مرة بالسخرية، ونقرأ هذا في قصة «بساطة فاخرة» ومرة بإثارة النقص البشري باعتبار إثارته فناً، قصة «ذاكرة خضراء» ومرة برثاء إنساني يشف عن تحريك الشعور بالحزن والألم حول فوات ما لا يمكن استرجاعه. «ذاكرة خضراء» أيضا. أما في قصة «فرحة حزينة» فينشأ، على غير المعتاد، تضارب في المشاعر بين حزن عام في مجالس العزاء، وفرح خاص لم يجد البيئة المناسبة لإعلان حضوره. فالقوة التي تولدها المشاعر المهيمنة في الفضاء العلني تقمع المشاعر الخاصة المفردة، ومن هذا الطقس القمعي تُلغى الأفراح الصغيرة وتُنفى القدرة على التعبير العلني عنها. فالإنسان في تمثلاته الاجتماعية هو مجموع ما تواطأت عليه مظاهر التعبير العاطفي في مجتمعه من فرح وحزن وكسب وخسارة ونجاح وإخفاق. وإن صادفت لحظة فرح صغيرة موجة حزن عامة، أو العكس، فإن الإخفاء والإسكات هما الخادمتان المناسبتان لتولي الأمر. أما في قصة «لن أعيش في جلباب أخي» فأهلاً وسهلاً بلعبة الأسماء، هنا المكر والغلبة والتطبيع والتوسيم، لا سيما في قائمة الأسماء الماضية والحاضرة والآتية في الأسرة الواحدة، فالاسم الواحد قد ينمو حظه الاجتماعي صاعداً إلى مستوى العلامة الفارقة في التسلسل العائلي. على سبيل المثال، وهذا ما تتحدث عنه القصة، يتكرر اسم خالد في القائمة العائلية بدءاً من الجد، ثم الأخ الذي مات، ومن بعده الأخ الذي حمل الاسم أيضاً، ليكون هذا الإرث حكاية مثيرة للطرافة والسخرية عند «أحد المراجعين في غرفة انتظار مكتب الأحوال المدنية» ومن هنا تتحول الفكرة إلى عملية مولدة للفضول عند المراجع وتبدأ بقشة الأسئلة بالانفراط شيئاً فشيئاً، وعلى هذا تتسع الغاية من إيراد الاسم على هذا النحو، وهي تحويل الآخر (المراجع) إلى وعاء خارجي، لا علاقة له بالعائلة، يمتلئ بالتطفل وشراهة المعرفة بالشيء، وما ذلك إلا عن طريق تصوره بصورة عبثية أو غبية وليس لفهمه وتحليله. حيلة في تزجية الوقت، وفي كيف يتورط الآخرون في الشؤون الخاصة بطريقة تحكمها المصادفة والملل. لكن القصة لا تتوقف عند هذه الجزئيات بل تمضي في السرد إلى النهاية باختيار مسرب المفارقات الحادثة في الأسماء ومعانيها، وفي الإرث الثقافي والاجتماعي الذي جعلها قوالب رئيسة في توريث الاسم. فالأسماء تعادل في قيمتها قيمة الإنسان وفق التصور الاجتماعي عن الرمز، أو عن الوصفة المقدسة للاسم الأول الذي أصبح مرجعاً في تكريم الشخصية عبر اسمه، عبر الطريقة في توريثه، عبر التبجيل المطلوب من الحاضر للماضي. وهكذا تمضي قراءة المجموعة من قصة إلى أخرى، دون أن تشابه قصة قصة أخرى، ما يعني أن ما وراء الكتلة القصصية الظاهرة على الصفحة قد تحقق، وأن البقاء هناك، بالنسبة لقارئ ولوع بهذا النوع من الاختراق، لن يكون بقاء قصيرا.