التشويط والمسح وشق الفستان.. .

من ذاكرة الأفراح النسائية.

في الماضي القريب، ربما حتى بداية الألفية، كانت الأعراس النسائية في المجتمع السعودي تحمل طابعاً خاصاً يعكس التراث وبعض التقاليد الاجتماعية، كثير من هذه المظاهر، بدأت تتلاشى تدريجياً، وإن حافظت عليها بعض العوائل، ومازالت موجودة في عدد من القرى والمحافظات، ومن هنا تبرز أهمية التدوين الشفوي للحفاظ على هذه العادات كجزء من التراث الاجتماعي والثقافي، ومن أبرز تلك المظاهر «التشويط» و»المسح» و»شق الفستان» أو العباية. اعتقد أن التشويط عادة تراثية قديمة في الأعراس النسائية كونها مرتبطة بالمدح، والمدح، أي ذكر أسماء أسرة معينة وفي الغالب يكون الذكور، ومدحهم بصفات جليلة مثل الكرم والشجاعة وغيرها، حيث تطلب سيدة من المعازيم أو من أهل العروس أو العريس من المغنية أن تغني بأسماء أبناء الأسرة، في الغالب تكون بإيقاع الدوسري وذلك بمقابل مالي، أظن أنه في فترة التسعينات والثمانينات الميلادية لا يقل عن خمسين ريال وقابل للزيادة بطبيعة الحال. في الغالب، كان المدح يتركز على أسماء الذكور في العائلة، حتى لو كانوا أطفالًا، بينما كسرت بعض النساء هذه القاعدة وطالبن بمدح أنفسهن أو بناتهن، كانت قبل عقود تُقابل بانتقاد خفيف، ومع مرور الوقت بدأ يتحول لأمر طبيعي، على سبيل المثال، إذا كانت الأم لديها ابن واحد وبنات، قد يُذكر اسم الابن مع البنات، لكن إذا زاد عدد الذكور، يُقدم ذكرهم في المدح حتى لو كانوا صغارا. وهناك (شوط خاص)، وهذا إن لم تكن قد سمعت مباشرة في أحد الأعراس، فما زالت كثير من تسجيلات الزواجات توثق عبارة (شوط خاص) وتكون أغنية عاطفية عادية، وهذا يعني ايضا أنه غير مسموح لأحد بالرقص فيها سوى صاحبة الشوط التي دفعت المبلغ، وربما يكون التنويه عنه، كونها أغنية عادية ليست مدح، فالمدح بطبيعة الحال لن يرقص عليها إلا أهل الشوط وقريباتهن. قصت لي إحدى السيدات تسكن في أحد القرى أنها حضرت حفل زفاف وهي تعشق حضور هذه الاحتفالات حيث كانت في زمناً ما ليس بعيد أحد منافذ الترفيه، أنها رقصت مع رفيقتها على أغنية وبعد انتهائها حضرت لها أحد أعضاء فرقة الغناء وطلبت منها أن تدفع شوطها، تقول: نظرنا لها باستغراب! عن ماذا تتحدث؟! فأخبرتهما أن عليهما دفع شوط نظير رقصهما !! أتصور أن هذا موقف فريد من نوعه. وهناك اتفاق ضمني بين أعضاء فرقة الغناء لو كان المبلغ المقدم للشوط أقل من مائة ريال تكون مدته الغناء قصيرة جدا وتزيد المدة في حالة ارتفاع المبلغ، وإن كان هناك ثبات على مدى عقود على المائة ريال كشوط أو تمسيح، ويعتبر مبلغاً جيداً ومرضياً للمغنية، وقد تحصل صاحبة الشوط على مدة زمنية ترضيها في الرقص، كما أن هذا المبلغ المائة ريال قد يسمح بوضع قائمة من الأسماء لا بأس بها لمدحهم، قد لا تحصل عليه من قدمت خمسين ريال، ويحصل أن يثور غضب بعض المعازيم من الطقاقة، لقصر مدة الشوط إن كان المبلغ المدفوع مائة ريال. (سوف استعمل اسم طقاقة في بعض المواقع كوني لا أرى فيه نقصاً أو عيباً، فهو يمثل مهنة محترمة مثل غيرها، ومحاولات تغيير الاسم ينم عن ارتباك ثقافي في التعامل مع هذه المهنة). ومن القصص التي سمعتها واعتقد أنها وقعت في التسعينات أو الثمانينات الميلادية إحدى المعازيم أعطت المغنية عشرة ريالات كشوط لها وأعطتها أسماء للتغني به فما كان من الطقاقة إلا أن رمتها عليها كنوع من الاعتراض و رد الإهانة ، حيث اعتبرت المغنية أن عشرة ريالات مهينة لها ولفرقتها، ويقال أن أحد عضوات الفرقة قالت بصوت عال لقائدة الفرقة التي رمت بالعشرة (ليتس شاقتها) بقصد تمزيق العشرة ريالات وليس الاكتفاء برميها فقط، ومن شاهد الموقف اتفق مع المغنية وأثنى على تصرفها فما قامت به المرأة تصرف مستفز ومهين ، بينما في القرى قد تدفع امرأة بعشرة وما فوق لتطلب شوطاً أو تمسح بها دون أن تواجه بهذا الرد والرفض. وقد يحصل أن يتم الاتفاق مع المغنية بأن يكون أجرها المادي عبر الأشواط ، دون دفع الأجر المالي كاملا وهو ما يسمى (قطوعه) أو يتم دفع مبلغ بسيط مثل خمس مائة ريال أو ألف والباقي يكون من التشويط، وفي العادة تضمن الوسيطة التي أحضرت العرس للطقاقة (وفي العادة تكون إما من أعضاء الفرقة أو صبابة قهوة وأحياناً امرأة عادية تعرف أهل العرس وتعرف الطقاقة فتذكرها لأهل الزواج وأن تم الاتفاق يكون لها مقابل مادي من المغنية يسمى سعي) بأن أهل الزواج (راعين مَدّه) وهي كناية عن مَدة اليد او العطية، أي أنهم أسخياء وكرماء، وقد يتعدى مبالغ التشويط مبلغ القطوعة، مما يوضح أهمية التشويط عند بعض العوائل، كما أنها لا تحسب فقط تشويط المعازيم، ولكن يؤخذ في الحسبان أن التشويط يرافقه المسح بالمال على الراقصات، حيث يمسح بالمال على رؤوس الراقصات، بمعنى مع كل شوط يكون من المعازيم سوف يقوم اهل العروس او اهل العريس بالمسح بالمال على الراقصات، بالإضافة للقريبات والمعارف، فكل صاحبة شوط هناك عدد من المعازيم يمسح عليها بالمال وفي العادة لا تقل عن خمسين ريال من كل وحدة ، قابلة للزيادة ، وان كان شبه معروف أن أهل العريس والعروس يمسحون بمائة ريال وأكثر، فالمسح هنا يكون بمثابة التقدير والاحترام للمعازيم، لذا سوف تجد أم العروس والعريس وأخواتهم والمقربين منهم يحملون مبالغ ماليه تتجاوز الثلاثة والاربعة والخمسة آلاف مصروفة على خمسينات ومئات للمسح ، وكل هذا من نصيب الطقاقة التي تضع طار أمامها توضع فيه فلوس المسح ، ولا نستغرب أن عرفنا أن المغنية قد تحصل فيه ليلة واحدة من التشويط والمسح ما يتجاوز العشرين الف ريال . التمسيح ليس مجرد فعل مادي، هو عملية تبادلية متفق عليها ضمنياً، فما تُقدمه سيدة اليوم من تمسيح، سيعود لها كتمسيح أيضاً في مناسبات أخرى. ولا أعرف سبب تواجد هذه الظاهرة عند النساء دون الرجال، فمسألة التشويط لا توجد في عالم الرجال حتى بوجود الفرق المغنية، وفي بعض الأحيان خاصة وقت الزفة أثناء دخول والد العروس والعريس وأخوان الطرفين وأقاربهم، في الغالب يكون الرقص بالفلوس فالحضور يرين المبالغ المالية التي في أيدي الرجال الذين يشاركون قريباتهم الرقص، ثم يمسح بها على رؤوسهن، وفي العادة تكون مبالغ مالية جيدة، ويقال باللهجة العامية (يرمي الزرق) وهي كناية عن الخمس مائة ريال. ومن مظاهر الاحتفاء والتقدير شق الفستان أو البشت (وهنا ذكرت كلمة بشت وليس عباءة كونها كانت تسمى بهذا الاسم في الفترة التي كانت موجودة فيها، وفي الغالب كانت البشوت الحرير التي نسميها عباية الرفع) على من ترقص، ويكون الشق في اسفل الفستان، أي أن السيدة ترفع ثوبها وتشقه، وكل وحدة وحماس الشق أين يقف، واظن أن هذا الامر غير معروف إلا في منطقة الحجاز ربما تحديداً في مكة، فعند تجهيزي لهذه المقالة سألت عدداً من الصديقات من المنطقة الوسطى فوجدت الاغلبية لم يسمعن عن هذا الأمر، بينما حين سألت صديقات وقريبات من منطقة الحجاز كن ما بين بين ، أما من سكن مكة مباشرة فذكرن أنهن يعرفن هذا الفعل وكان موجودا في السابق واختفى الآن، وذكرت لي خالتي أنه في منتصف الثمانينات الميلادية في قرية تربة خلف مدينة الطائف كان هناك زواج حضره بعض النساء من منطقة مكة وقامت إحداهن بشق فستانها على أخواتها اثناء رقصهن ، تقول تفاجأنا عندما رأينا المشهد فقد كان غريبا وعجيبا بالنسبة لنا ثم مسحت على أخواتها بأكثر من الف ريال تكريماً لهن، كنا نراه مشهداً باذخاً جداً، وبقى حديث لمجالس النساء فترة من الوقت ، لاسيما شق الفستان ذاك القماش الجميل، فقد أخذتنا الحسرة نحن كمشاهدات على الفستان الغالي. وتؤكد سيدة سألتها عن هذا الأمر بأنه معروف عند كثير من نساء مكة وأنها شاهدته بكثرة في الأعراس، وقالت تقريباً في السبيعينات والثمانينات والتسعينات الميلادية كثير من نساء مكة كن يشققن العباءة او الفستان على من ترقص، ومن تشق فستانها على إحداهن أثناء رقصها تحضر لها المرأة الراقصة بشتاً أو قماشاً بديلاً عنه، وإن كانت غير ملزمة به، ولكن من باب الود والتقدير. وقالت لي سيدة وهي تتذكر أحد مواقف شق الفستان المؤثرة، أن سيدة توفى ابنها وغابت عن الناس ما يقارب أربع سنوات ، في أول زاوج حضرته بعد عزلتها ورقصت فيه بعد إلحاح ممن حولها توافد عليها قريباتها وصديقاتها بالرقص معها والتمسيح وشق الفساتين، وعندما سألت السيدة هل ردت لمن شقت ثوبها عليها قماشاً لكثرة العدد؟ فقالت جميعهن أقسمن عليها بعدم إحضار شيء ، فقد كان الفعل بدافع عفوي عاطفي للتعبير عن فرحتهن بعودتها وخروجها من حزنها ، وتقول إن الطقاقة في تلك الرقصة فقط دخل عليها من التمسيح ما يعادل دخل ليلة كاملة . ومن جانب آخر، قد تشاهد في مكان الرقص ما تحسبه عراكاً بسيطاً، ولكن تكتشف أن بعض الراقصات يتداركن من أردن شق الفستان بالحلف والايمان أن لا تفعل ذلك. تقول أمي كان هناك سيدة في مكة عرفت بخفة دمها (عيارة) كانت تشق ثوبها على قريباتها وصديقاتها في كل عرس ثم تخيطه وتعيد شقه في مناسبة أخرى، وسألتها هل هذا طلباً للقماش البديل؟ فقالت أمي: لا أعتقد، هي تفعلها من ضمن تصرفاتها الفكاهية الصادرة منها، حتى أن إحدى السيدات هددتها بأن لو شقت عليها الفستان المخيوط الذي سبق شقه، ستقوم بتمزيقه حتى يفسد تماماً ولا تستطيع إصلاحه. من أسباب كتابتي لهذا المقال، علاوة على اهتمامي بتدوين التراث، أني رأيت مقطع فيديو لرجل يمازح زوجته ويرقص أمامها فقالت (بقوم أمسح عليه) وعندما ألقيت نظرة على التعليقات، وجدت عدداً كبيراً يسأل عن: ماذا تعني (أمسح عليه) صحيح كانت هناك إجابات صحيحة، ولكن الإجابات التي لا تعرف أو فسرت العبارة بشكل خاطئ عدد لا يستهان به، أعرف أن القارئ سيقول إن الأجيال الحالية لا يعرفون شيئا عن التراث، وهذا الكلام لا ينطبق على ما شاهدته وما ألمسه فعلياً في الواقع، مثلاً تتبعت بعض حسابات التعليقات ووجدتهم من أعمار مختلفة منهم من تخطى الثلاثين، والأمر الثاني وهو الأهم، عندما نقول أن الأجيال الحالية لا تعرف التراث حتى القريب منه فهذا مشكلة، لماذا لا يعرفون ؟! لذا أحاول من خلال هذه الكتابات أن أدون ما أستطيع من العادات التي أراها مهمة في الحفاظ في الموروث الثقافي، وما لفتني في التعليقات وأزعجني في نفس الوقت، أن من عرف معنى التمسيح وحاول شرحه لمن لا يعرف استعان بالدراما المصرية (قصدها تنئط عليه) والمقصود هي الكلمة الدارجة في اللهجة المصرية برمي المال على الراقصة، أو عمل آخر شبيه بالتشويط، بأن أحد المعازيم يستعرض عدداً من الأسماء وهو يلوح بمبلغ من المال ثم تقال الجملة الشهيرة (رقصني ياقدع)، انزعاجي وهو الذي يكاد يتكرر في معظم المواقف التي تعني بالتراث، أننا نحفظ جيداً تراث الآخرين بفعل أعمالهم الدرامية التي توظفها بشكل درامي سلس، و الحقيقة أن البرنامج أو المقال والكتاب لا يؤتى ثماره مثلما تفعل الدراما، وللأسف هذا الأمر مفقود في الدراما السعودية، فالتوثيق ليس حنيناً للماضي، بل محافظة على ذاكرة اجتماعية وثقافية.