جاسم الصحيح يكتب عن ديوان الشاعرة حوراء الهميلي..

أنوثةٌ تسيلُ على السطور.

البنت التي كانتْ تبكي ضياعَ لعبتها في الصغر قد كبرت الآن، واكتشفتْ أنها كانت تبكي ضياعَ ذاتـها في الوجود من خلال ضياع اللعبةِ في ذلك الحين؛ وعبرَ هذا الاكتشاف، أصبحتْ البنتُ شاعرةً بـرِقَّةِ الدمع ونقاء الطفولة، وشحذتْ عِدَّتَـها اللغوية، ودخلتْ في معركة الاستعارات الناعمة، فأَدهَشتنا بقدرتها العالية على تجاوز العاديِّ من القول، وأَمتَعتنا برؤيتها العميقة للأشياء من حولها بمنظورٍ جديد في ديوانها الصادر عن (دار تشكيل) بالتعاون مع (خيمة المتنبي)، والموسوم (وصحوتُ للأحلامِ رائحةٌ).. إنَّها الشاعرة المتفردة حوراء الهميلي. لم أكنْ مخطئًا حين قلتُ عنها قبل سنوات: (حوراء) شاعرةٌ تفهم لغةَ الضوء وفقهَ الإشارة و(أحاديثَ) الإحساس في (مُسند) المشاعر؛ قصيدتُها تمتاحُ من خزَّانٍ ثقافيّ هائل، وتمتاز بدِقَّة التصوير وذكاء الاستعارة التي تُفضي إلى شعريةٍ مجازيةٍ ناصعة. ومنذُ أنْ كانت نواةً تنمو في عتمة الوقت حتَّى أصبحتْ نخلةً من الألق والتجلي في فضاء الوطن، ما زالت تواصلُ بناءَ ذاتِها بناءً شعريا دون كللٍ أو ملل، وها هي الآن تلبسُ وجهَ النجوميَّة الوسيم والجذَّاب، وتقدِّم تجربتها الجديدة في هذا الديوان الجديد، وتستضيفنا هذا المساء على موائدِ أحلامها الجميلة كما استضافتنا من قبل على موائدِ قصائدها الرائعة. قد لا يكون الشعر حمَّالَ حقائقَ قطعيَّة، ولكنَّهُ بالتأكيد حمَّالُ أحلامٍ قلبيَّة وتجليَّاتٍ روحية، وها هي شاعرتنا المبدعة (حوراء) تُصَدِّرُ ديوانَـها بإهدائه إلى ولدَيَها.. أجملِ حُلُمَينِ في حياتـها، فتقول في مقطعٍ من الإهداء: «أستقبلُ الأحلامَ يوميًّا وأعلمُ كلَّما انقدحَ الوميضُ بقاعِ فانوسٍ بأنَّ الضوءَ حُلْمٌ مُرسَلٌ من جفنِ طفلٍ نائمِ!» لم تخذل (حوراء) جدَّاتِـها من الشاعرات العربيات، فقد حاربت بكلِّ ما أوتيتْ من قريحةٍ خصيبة من أجل استمرار نقاء السلالة الشعرية الأنثوية، وإذا كانت الجدَّاتُ البعيداتُ (الخنساء ورابعة العدوية وولَّادة بنت المستكفي وغيرهنّ) قد حضرنَ في شعرِ (حوراء) بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، فإنَّ الجدَّةَ القريبة الشاعرة العراقية (نازك الملائكة) قد حضرت في هذا الديوان نصًّا بعنوان (أسورةٌ في معصم نازك)، حيث تخاطبُها (حوراء): «الصبايا رحنَ عن ساقية الشعر مشتْ (عاشقةُ الليلِ) وفي خابية الوقت غناءٌ سومريٌّ سالَ من وحي الجداولْ بابلٌ من خلفها تمشي وفي الكفَّين شتلاتُ فسائلْ وتُغَنِّي: يا نهارا جهةَ النهر تعرَّى تتحراهُ الأيائلْ» وفي نفس القصيدة، تتحاور (حوراء) تحاورًا شفيفا مع جدَّتها الشعرية (نازك الملائكة) التي أجمع النقَّاد على أنَّـها َأَوَّلَ من قام بالتنظير الفني لقصيدة التفعيلة.. هذه القصيدة التي اعتمدتـها صاحبةُ الديوان لتكون شكلا شعريا لكلِّ قصائدها المكتنزة بالصور الحياتية.. تقول (حوراء): «ليسَ قلبا ذلك المركونُ أقصى بقعةٍ في الصدرِ بل محض شظايا ورمادٍ وصدًى عذَّبَهُ نوحُ الأراملْ هل تُرى ضَيِّقَةٌ أسورةُ الإيقاع في المعصم؟ مَنْ رَوَّعَ سيقانَ الجميلات؟ وأدمى الجرسَ المعقودَ في خيط الخلاخلْ؟ إيهِ يا عاشقةَ الليلِ سكبتِ الشعرَ في مرودِيَ الفضيِّ هامتْ أعينٌ نعسَى على جفنِ المكاحلْ» لا تتغذَّى حوراء على التراث الأدبي العربي فقط من أجل تشكيلِ منجزها الشعري، وإنما تتَّخذ لها ذخيرةً معرفية من التراث الأدبي العالمي أيضا، وهذا ما نلاحظه في مقدمةِ بعضِ نصوص الديوان حيث تحضرُ مقولاتُ بعض الأدباء العرب والعالميين في موضع العتبات من هذه النصوص، أو المداخل التي تقودُنا إلى فكرةِ كلِّ نص. وفي الداخل، تحاول (حوراء) دائما أن تُزواج بين المعاش والمتخيَّل، وتراوحُ بين شعر التجربة وشعر الذاكرة، فهي تغوصُ حينا في عمق الحياة بأنفاسِ غوَّاصٍ عريق، وحينا آخر تطوف حول الحياة طوافَ الحاجّ حول الكعبة. قصيدتُها تنفرط أمامنا مثل عِقدٍ من المعاني، وثمةَ خيطٌ رفيعٌ يربطُ بين الدُّرر، لا يراه إلا الذين يربطهم بالشعر حبلٌ متين. والكتابةُ لدى (حوراء) مطرقةٌ تهشّم اللغة المألوفة وتبتكر شكلا آخر للمفردات؛ هكذا يستعيد الشعرُ عافيتَهُ على يديها عبر التمرد الجميل والثورة الصادقة والشغب النبيل. فهي حينما تقول في قصيدةٍ بعنوان (خِفَّة): «يمرُّ خفيفا فوق الماءِ يعلِّمه الليلُ ركوبَ الموجِ تُكَلِّمُهُ الأسماكُ وتشكو الأصدافُ مخاضَ اللؤلؤ إذْ يتحجَّرْ...» إنَّ (حوراء) هنا تُضفي صفاتٍ بشريَّة على الأسماك إذْ تتكلم، وعلى الأصداف إذْ تشكو، وهذا يهشّم التعبير اللغوي المألوف، ويعيد تشكيل اللغة مجازيًّا إلى ما يُوسِّع معانيها ويمنحها جمالا إضافيا. ومثل هذا المثال، توجد العشرات من الأمثلة في ثنايا الديوان. أمَّا مـخيالُ (حوراء) فهو العدسة الدقيقة التي تلتقط المشاهد من الواقع حينا، وتصنعها من الخيال حينا آخر، وتعرضها أمامَنا مثل فلم سينمائي قامتْ بكتابته وتمثيله ببراعة. وفي هذا الديوان، تكادُ تسيلُ الأنوثة على السطور من فرط ما تتناول (حوراء) قضايا المرأة على كلِّ الأصعدة، سواءً على صعيد الحلم كما في قصيدة (قبل أنْ يرفَّ جفنُ الليل)، أو صعيد المعاناة كما في قصيدة (أرحامٌ في ردهة الانتظار)، أو صعيد الحميمية كما في قصيدة (قُبلة)، أو صعيد الهواجس العابرة كما في قصيدة (في جيبِ راهبةٍ ..صُرَّةٌ من قُبَل) حيثُ تجسِّد في هذه القصيدة هواجسَ امرأةٍ راهبةٍ محرومة من الزواج لأسبابٍ دينية، بينما غريزتها البشرية تلحُّ عليها، فتتحدَّث من خلال (حوراء): «كيف أحنِّطُ طعمَ القُبلةِ وهي تذوبُ على شفتي بأصابعَ خجلى ألمسُها فتدبُّ الرعشةُ في رئتي أتعاقبُ - ربِّ - مخيِّلتي ؟! الديرُ كبيرٌ يا ربي جلبابي أزرقُ هفهافٌ جسدي كالمرمرِ مصقولٌ عذراءٌ كلُّ جنايتِها نُذِرَتْ في هودجِ راهبةِ امحنْني زوجا يا رباهُ لا زوجَ سيطلبُني بعد الآنَ العمرُ فتاتٌ من حلمٍ في جيبِ ليالٍ موحشةِ الرغبةُ تسعرُ في جسدي قطٌّ أسفلَ ثوبي يخمشُ وجهي يؤذيني تحتَ سرير الرغبةِ ويقلِّبني حتى الفجر ينهشُ لحمي وضلوعي وأنا قنِّينةُ عطرٍ محتَبَسٍ في بتلتِهِ رقصتْ في طربٍ سوسنتي» إلى أنْ تقول: «لم أَحبِبْ غيرَكَ يا ربي لم أنظر لجمالِ سواكَ ولم يمسسْني بشرٌ قطُّ كـمريمَ معترفًا عقلي: لم أُذنبْ إلا في حانةِ رأسي حيث كؤوسٌ تُقرَعُ.. قُبَلٌ تتطايرُ من شفةٍ وتحطُّ على شفةٍ وضجيجٌ لا يهدأُ صاخبةٌ حفلةُ جمجمتي أتعاقبُ - ربِّ- مخيِّلتي» لا تكتفي (حوراء) بالبحث عن أرضٍ بكر من أراضي اللغة تزرع فيها سنابلَ المعاني، وإنما تبحث أيضا عن سماءٍ جديدة من سماوات الروح تطلقُ فيها طيور الدلالات، وهكذا تلتقي الأرض والسماء في قصائدها الراسخة كالإيمان، والشاهقة كالمآذن. 8 أغسطس 2025م