تحديات الهوية الدرامية في الأعمال التركية المعربة ..

إشكالية التوطين وفقدان البصمة الثقافية .

المقصود بهوية العمل الدرامي هو البصمة الخاصة التي تميّزه عن غيره من الأعمال، وتجعل المتلقي يتعرف عليه ويشعر بفرادته. هي بمثابة بطاقة تعريف فنية وفكرية. عند تحليل أي عمل درامي، يمكن النظر إليه من عدة زوايا مترابطة؛ فالفكرة والموضوع يشكّلان البوابة الأولى لفهم ما يريد العمل قوله، سواء أكان يناقش قضايا اجتماعية أو تاريخية أو إنسانية أو نفسية. وتأتي الرؤية الإخراجية لتمنحه شكله البصري والسمعي عبر الإضاءة والتصوير والإيقاع، مما يضفي عليه فرادته. أما الأسلوب الكتابي، فيظهر في بناء الشخصيات وصياغة الحوارات والسرد الذي يحدد نبرة العمل الخاصة. وتلعب البيئة الزمانية والمكانية دورًا مهمًا في إضفاء ملامح محلية أو عالمية تمنحه سياقًا محددًا. كما تبرز القيم والرسائل التي يحملها العمل، فتترك أثرًا في وعي الجمهور. وأخيرًا، يكتمل المشهد بالأداء التمثيلي الذي يجسّد الشخصيات ويمنحها صدقها وعمقها الإنساني. لذلك، الهوية ليست مجرد شكل خارجي، بل مزيج من الفكر والأسلوب والتقنية والرسالة، تجعل العمل الدرامي متماسكًا، واضح المعالم، وقادرًا على التميّز وسط غيره من الأعمال. ما تطرحه الأعمال الدرامية المعربة عن التركية إشكالية جوهرية تتعلق بالهوية والتمثيل الثقافي. فبرغم محاولتها اتخاذ قالب سعودي، إلا أن كثيرًا من تفاصيلها البصرية والسردية تظل مرتبطة بالمجتمع التركي، وليست انعكاسًا حقيقيًا للبيئة السعودية. ويتجلّى ذلك في مظاهر عدة؛ منها تقديم الشاي بدلًا من القهوة، أو وضع علاقة الملابس عند مداخل البيوت، بالإضافة إلى استحضار قوانين أحوال شخصية مستوحاة من السياق التركي من دون مواءمتها مع القانون السعودي. هذه التفاصيل قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكنها في حقيقتها تحمل أبعادًا ثقافية عميقة. إلى جانب ذلك، تغفل هذه الأعمال ما حققته المملكة من تقدم أمني وعدلي في تتبّع القضايا وحفظ حقوق الأفراد، كما تُهمّش قيمة الترابط الأسري الذي يشكّل أحد أهم ركائز المجتمع السعودي، حيث تجتمع الأسرة تحت سقف واحد رغم الظروف. وكذلك الحال بالنسبة لعادات الزواج وبناء الأسرة السعودية، التي تمتاز بهويتها وخصوصيتها الثقافية. هذه المفارقات تُفقد العمل مصداقيته، لأن الجمهور يدرك سريعًا أن النص لم يُعَدّ صياغته بما يتلاءم مع السياق المحلي. ونتيجة لذلك، تتشكل هوية مشوشة: لا هي سعودية خالصة تعبّر عن المجتمع، ولا هي تركية تُعرض كما هي، بل نسخة باهتة تفتقد البصمة المميزة. وهكذا يُهدر العمل فرصة ثمينة كان يمكن أن تجعله أكثر تأثيرًا لو تمّت عملية “التوطين الدرامي” بوعي، ليصبح فعلًا معبّرًا عن هموم وقضايا المجتمع السعودي بدل الاكتفاء بتكرار تجارب الآخرين دون وعي. الهوية الدرامية هنا ضعفت لأنها لم تُبنَ على إعادة صياغة النص وفق البيئة السعودية: عاداتها، رموزها البصرية، قوانينها، وحتى تفاصيل حياتها اليومية. وهذا يوضح أهمية أن يكون وراء التعريب كتّاب ومخرجون يدركون البنية الثقافية المحلية، لا يكتفون بترجمة الحوار فقط. للحفاظ على الهوية الدرامية عند تعريب الأعمال، يبدأ الأمر بتوطين التفاصيل اليومية؛ كاستبدال العادات التركية بما يقابلها في المجتمع السعودي، من تقديم القهوة والمجلس والعبارات المحلية بدل الشاي وترتيبات المنزل وأنماط التحية المختلفة. يلي ذلك مطابقة السياق القانوني والاجتماعي، بحيث تُسقَط مشاهد الزواج والطلاق والميراث والعلاقات على الأنظمة واللوائح السعودية لا على النص الأصلي. كما ينبغي اختيار اللغة واللهجة السعودية الملائمة لموقع الأحداث (نجدية، حجازية، جنوبية…) بدل الاكتفاء بترجمة حرفية للحوار. وعلى المستوى البصري، تُصمَّم السينوغرافيا البيوت والمدارس والشوارع بما يعكس العمارة والذائقة المحليتين، وتشمل عملية التوطين أيضًا الإشارات الثقافية والرموز؛ من الأغاني والأمثال والمعتقدات إلى المناسبات الاجتماعية، لتكون من البيئة السعودية. تُعاد صياغة الشخصيات وأنماط العلاقات بما يجسّد البنية الاجتماعية المحلية: علاقة الأب بالأبناء، والأم بالأسرة، وصلات الجيرة، ومكانة المرأة والرجل. كذلك يجب أن تكون الموضوعات المطروحة كالطلاق والإرث والخلافات العائلية ذات صلة حقيقية بهموم المجتمع السعودي. وأخيرًا، يُتجنَّب “الاستيراد الأعمى”: فكل مشهد لا يمكن توطينه يُحذَف أو يُعاد كتابته. القاعدة الذهبية: التعريب ليس ترجمة، بل إعادة خلق للنص بما ينسجم مع هوية المجتمع السعودي. ومع ذلك، لا ينبغي أن نغفل الدور الكبير والجهد الذي يبذله القائمون على العمل الدرامي؛ فهم يواكبون التغيّرات في عالم الدراما المتلفزة وإنتاجها، ويسعون إلى تنويع مصادر الكتابة الدرامية وتعدّد ما يُطرح ويُقدَّم للمشاهد السعودي. ولئلّا يظنّ القارئ أنّ هذا الخلل يقتصر على الدراما السعودية، فثمّة شواهد كثيرة تؤكّد أنّه ظاهرة عربية وعالمية ترافق نقل النصوص الدرامية من ثقافة إلى أخرى. * ماجستير في الأدب المسرحي