فيلم EDEN حين تتحول الجنة إلى جحيم.

الجنة هاجس الإنسان وشغله الشاغل، حتى قبل انتهاء الحياة.. وأحياناً تخدعه فكرة أنه قادر على خلق جنة على الأرض، وهو جاهل تماماً أن الجنة في داخله. فيلمي لهذا الأسبوع من نوع الأفلام التي تخلق التساؤلات، وتحرج الإنسان أمام وجوده وتتركه على المحك، حين ينتبذ الإنسان بنفسه هارباً من النمو المتسارع للحضارة، ليصنع حضارة أخرى قائمة على معاييره الخاصة، الفيلم يطرح قصة مأخوذة من أحداث حقيقية عن أشخاص ذهبوا إلى جزيرة في أقصى الأرض، وكل منهم مدفوع بأسباب مختلفة تماما عن الأخر ليجدوا أنفسهم أمام الصراعات الإنسانية نفسها، حتى في أبعد الأماكن سيبقى الإنسان هو الإنسان، تحركه غريزته وتتحكم فيه شهواته وتسيطر عليه شروره، مالم يعمل في الأصل على تهذيب روحه. والقصة تبدأ بخروج الطبيب ورفيقته المصابة بمرض التصلب اللويحي إلى جزيرة بعيدة ليساعدها في التشافي بينما هو عاكف على تأليف كتاب فلسفي، وقبل أن يكون معهما أحد ظن الزوجان أنهما مرتاحان لطريقة الحياة، ولكل ما يحصلان عليه من شهرة خارج الجزيرة بوصفهما بطلين استطاعا صنع حضارتهما الخاصة دون أن تلتهمهما الحضارة الرأسمالية أو الحروب خارج الجزيرة، يصاب الطبيب بالغرور وتمتلئ نفسه بالزهو، حتى تصل إلى الجزيرة عائلة صغيرة مكونة من رجل وزجته وابنه المصاب بداء السُل، والذي عجز عن توفير العلاج المناسب له وكان خيار الذهاب للجزيرة، حله الوحيد بسبب الفقر والحاجة، لكن الطبيب لم يكن ليحتضن العائلة الجديدة في جنته المزعومة بل أرشدهم إلى المكان الأكثر خطورة في الجزيرة المكان الذي تصعب الزراعة فيه ويصعب الحصول على الماء؛ متوقعا أن ينتهي بهما الأمر خارجين من الجزيرة يائسين، أو أن تقضي عليهما الحيوانات المفترسة لكن الزوجين يبذلان جهداً جبارا في استصلاح الأرض وزراعتها وجلب الماء وتهيئة أسباب العيش حتى أصبح المكان صالحا للبقاء فيه، مما يفاجئ الطبيب الذي رفض مد يد العون لهما، ثم تصل الى الجزيرة امرأة في غاية الجمال تنوي بناء فردوسها هي الأخرى مدعية أنها بارونة وتمتلك من الجزيرة جزءا كبيرا وفقا لمنحة مُنحت إياها. وبوصول البارونة يختلف شكل الحياة على الجزيرة ليتحول إلى صراع، فتبدأ بإشعال فتيل الحرب بين الجارين، وإشعال الفتنة بينهما حتى تصل الأمور إلى قتلها في آخر الأمر. «دكتور فريدريش» والذي كان يسعى لبناء مجتمع، خاص به بناءً على فلسفة متطرفة، يمثل النزعة المثالية الباحثة عن خلاص البشرية، لكنه في عزلته يتحول إلى ديكتاتور، أما رفيقته «دورا» فكان دافعها الرغبة في الشفاء الذاتي، والذي أوهمها أنه سيساعدها عبر التأمل لتشفى، فهي تقف بين الحلم المثالي والانهيار، أما «مارغريت» زوجة «هاينز»، فكانت البطلة الحقيقية للفيلم، تراقب بصمت طوال الوقت، حتى تأتي اللحظة المناسبة للكلام، فتصبح سيدة الجزيرة، وترفض الخروج منها للأبد. في حين شقت عائلة «هين» طريقها، انهارت قيم الطبيب لتحكمه الشهوة لتحقيق الكمال و تقوده إلى فقدان إنسانيته، ليصبح الشيء نفسه الذي يناهضه، فهو يكره البشر لكنه يتحول إلى أسوأ نسخة منهم، فكرة الهروب من العالم لبناء جنة على الأرض تتكشف كأكثر أشكال الوهم الإنساني خطورة فالجزيرة هنا تمثل صفحة بيضاء، لكن الإنسان يملأها بنفس أخطائه القديمة، كالطمع وحب السلطة والغيرة، المفارقة العجيبة أن الإنسان يظن أنه يستطيع الهروب من الحضارة، لكنه يحمل الفوضى في داخله!، (دكتورفريدريش) «جود لو» يؤمن بالصرامة والانسلاخ عن القيم التقليدية، مقابل «دورا» التي تبحث عن شراكة إنسانية، أما البارونة (آنا دي أرماس) تجسّد فكرة السيطرة عبر الكاريزما والإغواء. الشخصيات الأخرى (مثل عائلة ويتمر) تجسد البُعد لإنساني التعاطفي، فيُسحقون وسط هذا الصراع في البداية، لكن الأمور تنتهي لصالحهم بعد أن فهموا اللعبة، الفيلم يسأل هل يمكن للإنسان أن يجد معنى خارج المجتمع؟ الجواب ضمنيًا لا؛ لأن المعنى يُبنى عبر العلاقات والحدود الأخلاقية لا عبر العزلة المطلقة. استخدام الألوان الباهتة في تصوير الفيلم يعكس أن الجنة الموعودة ليست أكثر من سراب! والذي يتصاحب مع الموسيقى التصويرية جاءت بإيقاع بطيء ومتصاعد، ليخلق شعوراً بالانحدار التدريجي، لا الانفجار المفاجئ، وهذا البطء يخدم فكرة تآكل الحلم ببطء، لكنه في ذات الوقت أضعف التشويق السينمائي، غرق الطبيب في وسواس الطهارة والتطهير ورمزية قلع الأسنان بنفسه ما هي إلا رغبة في التجرد من الفساد، فهو يمثل النرجسية المثالية حيث يظن أنه قادر على كتابة كتاب جديد للإنسانية! الفيلم يوضح استحالة الهروب من الطبيعة البشرية، فمهما حاول الإنسان بناء جنة فسوف يحمل جحيمه معه. الفيلم من إخراج: (رون هاوارد) وبطولة: (آنا دي أرماس)، (دانيال برول) ، (فانيسا كيربي)، (جود لو) و (سيدني سويني). وبرأيي الفيلم لا يصلح للأشخاص الذين يبحثون عن فيلم لا يمكنهم أثناء متابعته إعمال عقولهم، هو من نوعية الأفلام التي تضعك أمام قصة لها الكثير من المعاني والكثير من الرمزيات المتداخلة مع بعضها البعض، وبالإمكان فهمها على أكثر من وجه، هل يمكن للمرء الخروج من مجتمعة ليخلق جنته المزعومة، دون حضارة دون مجتمع، بعيداً عن كل ما وصلت إليه البشرية؟؟ يقول أرسطو إن الغاية القصوى لوجود الإنسان هي السعادة، فهل يجد الفارون بأنفسهم هذه الغاية أم أن الجحيم بانتظارهم؟