في «تغريبة العبدي» لعبد الرحيم لحبيبي ..

الرحلة العلمية التي تحولت إلى مساءلة للواقع.

احتلت الشخصية مكانًا بارزًا في القرن التاسع عشر وأصبح لها وجودها المستقل عن الحدث ، بل أصبحت الأحداث نفسها مبنية أساسًا لإمدادنا بمزيد من المعرفة. بالشخصيات أو لتقديم شخصية جديدة. فهي تمثل مع الحدث عمود الحكاية الفقري؛ فالأشخاص في القصة مدار المعاني الإنسانية ومحور الأفكار والآراء العامة. فالقاص يسوق لأفكاره وقضاياه من خلال الشخصيات الروائية . فالفرد هو محور وجوهر تحرك الأحداث القصصية وتطورها حتى نهاية العمل. فالشخصية تصل بالقارئ إلى ما يسمى في العالم النقدي بلحظة الانفراج والتنوير. ولكاتب الرواية حرية اختيار ما يشاء لشخصياته من الأسماء والهيئات وأشكال التجلي ، فقد تكون كائنًا إنسانيًا كما قد تكون شجرة أو حيوانًا أو حتى جنيًا أو ماشاء من الشخصيات والأحداث السردية. وتغريبة العبدي للروائي المغربي عبد الرحيم لحبيبي احتوت على تقنية فنية حديثة حيث أوجد شخصية اقتبسها من لوحة فنية وقام بوصف شكلها وقصتها ودمج الشخصية الخيالية بالحقيقية ووضع تأويلاته السردية عليها. إذن فلكل رواية شخصيات تقوم بأدوارٍ مختلفة تعالج قضايا متنوعة ،وتنقسم هذه الشخصيات إلى رئيسة وثانوية ولا يمكن لأي دارس أو ناقد أو روائي أن يتجاهل أن الرواية تدور حول شخص رئيس تنطلق منه الأحداث أو تدور حوله الأحداث ومعه شخصيات أخرى ميزها النقاد عن الشخصية الرئيسية بأنها ثانوية ربما لأنها تأتي في الأهمية الثانية للشخصية الرئيسية أو كما يفهم بعض النقاد أنها مساعدة فقط. ورواية تغريبة العبدي عبارة عن رحلة لذلك كل الشخصيات الثانوية ساهمت مع الشخصية الرئيسة في بناء الرواية ولكنها غير مستمرة حيث إن الرحالة يلتقي في كل مدينة بشخصيات مختلفة ذات مرجعيات مختلفة. فالرواية (تغريبة العبدي) تتكوّن من قصتين ؛ قصة إطار وقصة مضمنة. إذن فسوف يكون هناك شخصيتان رئيسة : وهي شخصية الباحث في القصة الإطار . وشخصية العبدي في القصة المضمنة. فشخصية الباحث الذي جلُّ اهتمامه شراء الكتب ، فهو أول شخص يظهر في أحداث الرواية ، فكل الأحداث في بداية الرواية كانت مرتبطة به، ثم بعد ذلك تغيرت بسبب ظهور شخصيات وقصة أخرى مدرجة ضمن المخطوطة التي وجدها الباحث في سوق العفاريت .إذن فالمخطوطة هي المحور الأساسي لبداية الدخول في الرواية “تغريبة العبدي”. الشخصية الأخرى الرئيسة هي: (العبدي )لقد ساهمت هذه الشخصية في بناء الأحداث وتطورها ، فقد عاش في مدينة “أسفي” وتلقى تعليمه الأوليّ بالكتاتيب القرآنية وبالجامع المعظم بأسفي وجامع القزوين بفاس وينتمي إلى إحدى قبائل المغرب ، وهي قبيلة عبدة .فقد قام برحلة صحراوية عبَر من خلالها من فاس إلى بلاد المغرب العربي وأفريقيا وصولاً إلى المشرق العربي . وتتحدث المخطوطة عن رحلة قادته إلى مكة والمدينة للحج والزيارة ، وقد اغتنمها لزيارة بلاد مختلفة عربية وأفريقية ويصف في كل مدينة سلوك وطباع أهلها والعادات السائدة فيها و المعالم البارزة على سبيل المثال :جامع الأزهر في مصر . فالكاتب عبد الرحيم لحبيبي ألبس شخصية العبدي بمجموعة من الوظائف التي تدل على المخزون الثقافي والعلمي بالإضافة إلى كونه من مدينة “أسفي” فهو يريد تسليط الضوء على إسهام رجالات أسفي في إثراء الحياة الثقافية لمغرب تلك المرحلة . فالعبدي شخصية ثقافية في كل حدث تظهر بعقلية فكرية مختلفة تارة شخصية الفقيه قارئ القرآن ، و تارة أخرى يقرأ الكف ، بالإضافة إلى مزاولة أمور التجارة والطب ! حيث يقول: “صنعت لها مجموعة أنواع من الشراب المقطر من طبخة الأعشاب الطبية المنصوح بتناولها في كتب الطب للتداوي وتقوية البدن… “. فتلك الأدوار المختلفة التي قام بها العبدي تعمق الرواية في معالجة الواقع الاجتماعي وتبرز المرجعية الثقافية لسكان مدينة أسفي .فهو يريد أن يُشكل فضاء ملائم لتمثيل الهوامش الاجتماعية وإعادة الاعتبار لدورها الثقافي. أما الشخصيات الثانوية حسب منظور (فيليب هامون) تنقسم إلى شخصيات مرجعية تاريخية ومرجعية اجتماعية .فالشخصيات المرجعية تميل إلى معنى ثابت تفرضه ثقافة معينة يشارك القارئ في تشكيلها. وبناءً على ذلك تنقسم الشخصيات الثانوية في رواية تغريبة العبدي إلى فئة المرجعية الاجتماعية والتاريخية. على سبيل المثال في الشخصيات ذات المرجعية الاجتماعية: شخصية الأستاذ الجامعي حيث وصف الكاتب مرجعية جدية الأستاذ في رفض كل ماهو مجهول وغير مكتمل البيانات العلميّة ،فيقول :”كيف ستحقق هذه المخطوطة تحقيقًا علميًا أكاديميًا وهي بدون عنوان ومؤلفها مجهول أو نكرة ولا ذكر لتاريخ كتابتها أو مكان تأليفها… “ .ومن الشخصيات ذات المرجعية التاريخية الشيخ حيدة بن عبد الله يقول: “خرجت راحلاً بعد إشارة من شيخنا الجليل حيدة …”. فالعلامة من أعلام حاضرة (أسفي )تلك المدينة التي تحظى كباقي المدن المغربية بذاكرة علمية وأدبية وفقهية رفيعة المستوى ؛ حيث كان لأسفي علماؤها وفقهاؤها ممن اشتهروا في عصرهم وخلد التاريخ قصصهم. فالكاتب هنا مزج بين الشخصيات الخيالية والحقيقية وتلك تقنية روائية حديثة . فالكاتب أسقط آراءه الفكرية من خلال شخصياته السردية الخيالية والواقعية فيقول:” فكل أمر عجزنا عن مجابهته أو لم نقدر عليه حرمناه ومنعنا الناس عنه ؛ وهذا سبب تأخرنا وتقدم غيرنا فهناك الفقيه محمد السبعي من مراكش قام بتحريم المطبعة؛ لأنها يمكن أن تشكل في نظره خطرًا على التعليم الشفوي وحفظ القرآن”. الكاتب عبد الرحيم لحبيبي من خلال هذا العمل الروائي أراد أن يناقش بعض القضايا المتعلقة بالعالم الإسلامي من خلال شخصياته ويطرح رأيه الشخصي ، فالرواية تحولت من رحلة البحث عن العلم والمعرفة إلى تحليل واقع العرب والمسلمين، وتوظيف تقنيات سردية روائية حديثة.