
كثير من الأغنيات يتفاعل معها المجتمع لأنها أثارت قضية اجتماعية أو سجلت حدثا ما، لكن أقل القليل ما يبقى منها في الذاكرة حيًّا. من هذه الأغنيات واحدة اشتهرت في مدينة الرياض على الرغم من أن قائلها من بدر الجنوب ومؤديها من الكويت. أتحدث عن أغنية (دقّ التلفون بالصدفة وشليته). التي شدا بها يوسف محمد رحمه الله، وكتب كلماتها الشاعر الذي لم نهتدِ إلى اسمه الحقيقي إلا قبل أيام، بعد صدور ديوانه (جمع تكسير)، عن دار المفردات بالرياض، وهو الشاعر يحيى بن حمدان المحيريق. أما لماذا حققت هذه الأغنية انتشارا غير عادي في جيل السبعينيات؟ فلأنها أشارت إلى ظاهرة كانت منتشرة بين شباب الرياض ذلك الوقت بعد انتشار الهاتف الآلي - كما كان يطلق عليه - الذي جاء بعد فترة كانت الاتصالات فيها من منزل أو دائرة حكومية إلى منزل تتم بواسطة (السنترال). فانتهز الشباب والمراهقون الهاتف الذي لا يمر عبر المأمور للبحث عن فتيات يتسلون معهن هاتفيا إن استجبن. وقد ظهر قبلها بفترة (منلوج) عبد العزيز الهزاع رحمه الله (من ذا بيته؟) التي يقول مطلعها: (ياللي جالس تشغلنا) وينتهي كل مقطع برنين الهاتف ثم عبارة: (ألو من ذا بيته؟) كل مرة بصوت شخصية مختلفة من شخصيات الهزاع التي اشتهر بها. اعتزل يوسف محمد الغناء بعد سنوات حققت فيها أغنياته شهرة واسعة في المملكة والخليج، وكان آخر ظهور له قبل وفاته في قناة روتانا خليجية سنة 2017 مع محمد الخميسي في برنامج (وينك؟) الذي حاول جرّه إلى غناء ولو مقطع صغير، ورفض كل محاولاته. وبقدر حرص يوسف محمد على إخفاء تاريخه الفني، كان حرص يحيى المحيريق على توثيق كلماته. فقد ابتعد عن الشعر بسبب انشغاله في حياته اليومية بين أسرة ووظيفة، كان مخلصا لها إلى درجة أنه أهمل الشعر من أجلها، فبحسب قول شاعرنا في حوار معه على صفحات اليمامة في 16/5/2019 أجرته معه الصحفية مسعدة اليامي قضى من عمره سبعة وثلاثين عاما موظفا في إمارة نجران والمراكز التابعة لها. يقول الشاعر في مقدمه ديوانه (جمع تكسير) عن فكرة توثيق الشاعر ما كتب في ديوان: «تبدو في البدايات غير ملحة لكنها سرعان ما تنتقل من حالة الركود إلى حالة الإلحاح، وتبرز في اهتمامات صاحبها كلما تقدمت به العمر أو عندما تواجهه الوعكات الصحية». ويعترف شاعرنا بأنه مر بحالة شبه توقف عن إنتاج الجديد، ولذلك رأى أن لا فائدة من الانتظار، فقد جف النبع. قبل أن أتعرف على الشاعر من خلال ديوانه كنت أتوقع أنه كويتي، لا سيما أن كلمات أغانيه التي غناها له الكويتي يوسف محمد تتضح فيها اللهجة الكويتية، وقد زاد عجبي حين عرفت أن الشاعر سعودي من جنوب المملكة، وتحديدا من بدر الجنوب؛ إحدى محافظات نجران. وأهم مصدر يُعتمد عليه في ترجمة شاعرنا هو حواره في مجلة اليمامة الذي أشرت له قبل قليل، فقد أبان أن الأقدار ساقته إلى الكويت حين كان طالبا في المرحلة المتوسطة في زيارة خاطفة لأقارب له في الكويت، لكنها امتدت خمس سنوات، فقد قدم للالتحاق بالجيش الكويتي وقُبِل، فانقطع عن الدراسة وعاش وعمل في الجيش الكويتي إلى أن أذن الله له بالعودة إلى المملكة وإكمال دراسته، ومن ثم التحاقه بالعمل الحكومي في إمارة نجران. السنوات الخمس الكويتية كانت مفتاح شاعريته وسبب إلهامه. يقول عن بدايته مع الشعر: «النصوص الأكثر شهرة في هذا الديوان كتبتها وأنا على ظهر اسكلة (الاسكلة: منصة على شاطيء البحر للصيد) عرفتها في حقبة السبعينيات الميلادية. كانت تمتد شرقًا أكثر من مئتي متر في مياه الخليج العربي، ويحتضنها من جهة الغرب شاطيء البدع، حيث كان يقصدها الهواة لحذف السنارة للأسماك، اما أنا فكنت أقضي عليها الساعات وأحذف السنارة للمفردات قبيل الشفق». ولذلك أهدى ديوانه إلى هذه الاسكلة! منذ وصوله للكويت ارتاد مجالس الشعر، وأهمها مجلس الشاعر سليمان الهويدي؛ مقدم برنامج ألوان شعبية في تلفزيون الكويت. وقبل عودته لموطنه افتُتحت في الكويت ديوانية شعراء النبط وحصل على عضويتها فورا. ويتفاوت محتوى الديوان طولا، فمن القصائد التي تزيد عن عشرين بيتا إلى المقطوعات والنتف، ويقول في هذا التنوع: «أكتب البيتين أو الثلاثة الأبيات والأربعة فأجد أن المعنى اكتمل وأتوقف، والعبرة ليست في عدد الأبيات ولكن في روعة الصياغة واكتمال المعنى وجماله». أما سبب تسمية ديوانه (جمع تكسير) فقد اقتبسه من قوله في إحدى قصائده، ومنه يتضح اهتمامه باللغة العربية الفصحى وثقافته: سحر اللغة وجنونها تجتمع فيك أيضا معك يصبح جنون اللغة غير تنقاد لك كل المشــاعر دواليـك ليلك نهــار ومفـردك جمع تكســير وشاعرنا لا يعير تسمية قصائده بالا، فنادرا ما يضع للقصيدة عنوانا. من نماذج شعره: قصيدة (التلفون) أو (نورة) كما أسماها في الديوان: دق التلــفــون بالصــدفــة وشــليتــه ألو. نعم. مين؟ قالت لي أنا نورة من فرحتي طحت حتى الخط سديته ما لوم قلبي أبد لو زادت سروره ومن قصائده المشهورة المغناة: اعذريني عن التوديع ما اقدر أواجه واتركي لي رسالة حب وامضي عليها اتركي في زوايا البيت لي أي حاجة ريــح منــديل والا صــورتك علقيــها وهذان بيتان من قصيدة يطري فيها جمال عروس: البلابــل غردن لك والقمــاري وارقصوا في حفلتك كل البنات البني بحضرتك مثل الجواري اشــفات وكـنهــن مبــرقعــات ويستخدم الرمز أحيانا اضطرارا، فيقول من قصيدة عنوانها (الشاذلية): سميتها الشـاذلية من خيالي هروب ماهو لقبها ولا باســمها المســتعار الا انها شاذلية بوح ما هي شروب فنجالها دونه الشرشور يقدح شرار ومن معاصرته لوسائل التواصل الاجتماعي يقول: واغلقت واتسابك وسويت له طوق وتويترك ولا لحقنا سنابك ومن رقة العتاب أختار قوله: تعامــلك ســامــي كتــابة ومنطــوق راقي وكلــك ذوق حتـى عتابك أيضا رحيلك صار في منتهى الذوق واللطف بس انه جرحني غيابك وشاعرنا مثقف كما هي فاتنته التي لقيها في معرض الكتاب: شفناه في معرض الكتّاب يصــيغ الاهــداء لزواره أعســر وفي وقفته جذاب يا ما حلا إمضاه بيساره ويعبر عن أنانية المحب حين يرى غيره يحتفل وهو غير قادر على الاحتفال بسبب غياب الحبيب، كقوله: يا باعة الورد بالله لا تلفونه واذا بالامكان عيد الحب تاجيله وكثيرا ما يتحدث بلغة معاصرة، كما يقول: وانا ما ودي اقلب مواجع قلبها المجروح اجامــل واتســتر بالعلاقــات الحميمية لكني باتكلم في حدود الهامش المســموح واحدثكم عن اللي صوبت قلبي بعفوية ومن باب الاستظراف يمزج الكلمات الإنجليزية في طيات القصيدة كما في قوله: أجوب الكون واهادن ظروفي بين (هير) و(ذير) أو الكلمات الفارسية كما في قوله: تغلغل بالصريح الأعجمي بالقلب (روز) و(شب) (روز وشب) الليل والنهار.