
توطئة ينتمي نص دخيل الخليفة إلى كتابة شعرية حداثية تستثمر طاقات الصورة المركبة، والانزياحات اللغوية، وتعدد المرجعيات. والقصيدة لا تسعى إلى تمثيل الواقع فقط بقدر ما تنزع إلى إعادة صياغته جمالياً عبر تداخل بين المشهد الحضري (نيويورك) وبين الحمولة الرمزية (الوطن، الغربة، الحلم، الشعر). وهنا يتجلى المكون الجمالي بوصفه شبكة من العلامات تتوالد عبرها الدلالات في حوار بين الذاتي والكوني، وسنحاول أن نجمل ونفصل هذه المكونات الجمالية في عرضنا الموجز. 1 ــ الصورة الشعرية: بين التشكيل البصري والتكثيف الرمزي إن الصورة الشعرية في نص «ديمة نحيلة في شوارع نيويورك» ليست وصفاً مباشراً، بل بناء جمالي تتولد فيه العناصر عبر الاستعارة والانزياح، إذ يفتتح النص بإشارة حضرية عادية (إشارة المرور) تتحول جمالياً إلى رمز لانفتاح الحياة وانسياب الحلم، حيث تتحرك «الروح» بدل الجسد، في فضاء حضري يكتسب بعداً ميتافيزيقياً. يقول الشاعر: «الإشارة خضراء والروح ترقص بين التفاصيل مسحورة بمذاق الشوارع، حبلى بإرث الرماد، «. ثم تتحول الصورة إلى طقس استدعاء للكتابة، حيث الضوء يستعير هيئة الجسد، والحروف تنبت من العدم، في جمالية تقوم على تشخيص المفاهيم وتحويلها إلى عناصر حسية. يقول: «خذي إصبع الضوء، لمّي الحروف من الوهم، لا تقلقي من ندوب المسافة». أما الجمع بين المادي (الحقائب) والطبيعي (النوارس) فيخلق صورة كاليغرافية تجمع بين الغربة والترحال والحرية في قوله: «الحقائب قلب النوارس». بهذا الشكل، تتأسس الجمالية على انصهار الواقعي بالخيالي واليومي بالميتافيزيقي. 2 ــ الموسيقى الداخلية: تكرار وحركة إيقاعية تؤسس قصيدة «ديمة نحيلة في شوارع نيويورك» موسيقاها عبر مجموعة من الآليات الجمالية تتمثل في: ـ التكرار الإيقاعي: عبارة «تمشين، تمشين، تمشين» تُولّد إيقاعاً دائرياً يوازي حركة المسير في شوارع نيويورك، ليصبح التكرار شكلاً جمالياً للتوكيد والانغماس في الزمن. ـ التوازن بين الجملة الطويلة والنَفَس القصير: حيث نجد جُملاً ذات نفس سردي طويل، تتخللها جمل قصيرة قاطعة (مثل: «لا تذكري المقعد الخشبي»)، وهذا التنويع يمنح النص إيقاعاً متجدداً. ـ الجناس والانسجام الصوتي: مثل (الوهم / الوئام)، (الندّى / النهار)، (الحلم / الحروف)، ما يعمق الإيحاء الموسيقي للنص. 3 ــ التناص والبعد الثقافي لا تنفصل جمالية النص عن شبكة من الإحالات الثقافية: حين نجد استدعاء شخصيات أدبية وسياسية أمريكية مثل إدغار آلن بو و روفوس كينغ، ما يعمق البنية الجمالية بفتح النص على أفق عالمي. وتحيلنا سفينة نوح على استدعاء الرموز الدينية ما يوسع الدلالة نحو خلاص كوني ورمزية النجاة. أما الأنبياء الصغار، بائعي الوهم، هنود الشمال فهي عناصر تراثية/تاريخية تتجاور مع اليومي الحضري لتشكّل لوحة فسيفسائية. هذا التناص يخلق بعداً جمالياً يقوم على تفكيك الحدود بين الثقافات، بحيث يتحاور الشرق (الحنين، الصحراء، النداء) مع الغرب (نيويورك، برودواي، الأدب الأمريكي). 4 ــ جماليات اللغة والانزياح تنبني لغة الشاعر المبدع دخيل الخليفة في هذا النص البديع على عناصر جمالية منها: ـ التكثيف: حيث نجد كل صورة مشحونة بطاقة رمزية واسعة (مثل: «رئة الغرفة المدلهمة»). ـ التشخيص: إذ يتم تحويل المجرد إلى كائن حي (الشوارع تمتلئ بطعم الحياة، الشمس تُحصي الظلال). ـ الانزياح الدلالي: حيث يقوم الشاعر بالجمع بين أشياء لا تلتقي عادةً (الشموس تستظل بالتاريخ، الحقائب قلب النوارس)، مما يخلق دهشة جمالية. 5 ــ جمالية التوتر بين الغربة والوطن يتوزع النص جمالياً بين قطبين ثنائيين نجملهما في المنفى/الغربة (نيويورك، المقاهي، الضجيج، الشوارع)،واالوطن/الحلم (وطن تستظل الشموس، رمْله سيّداً)، ويتحقق البعد الجمالي في النص من خلال جدلية الجمع بين الأضداد: بين الفرح والحزن، الضوء والعتمة، الخيالي والواقعي، الحاضر والماضي. هذا التوتر هو الذي يمنح القصيدة جماليتها العميقة. خاتمة: إجمالا، يتجلى المكون الجمالي في قصيدة «ديمة نحيلة في شوارع نيويورك» في البنية الصورية المركبة التي تحول اليومي إلى مشهديات شعرية مدهشة. والإيقاع الداخلي المبني على التكرار والتوازي الصوتي، والتناص الثقافي الذي يمزج بين المحلي والعالمي، بين الأصالة والحداثة، وفي اللغة المنزاحة التي تخلق الدهشة والعمق الرمزي. إن هذه قصيدة تتأسس جماليتها على قدرتها على تحويل الغربة إلى فسيفساء من الرؤى، حيث تلتقي الذات الشاعرة مع المكان الأجنبي لتصوغ خطاباً شعرياً مفتوحاً على الكوني والإنساني. *كاتبة وأكاديمية من المغرب