صناعة الأصباغ الطبيعية..

حـين تهمس الطبيعة بألوانها.

من عمق الأرض، ومن جذوع الأشجار، ومن قشور الثمار، ومن حفيف الأوراق في جبال المملكة وبراح صحاريها وظلال نخيلها، همست الطبيعة بألوانها. لم يكن اللون لدى الأجداد مجرّد مادة تزين بها الجدران أو تطرّز بها الأثواب، بل كان رمزًا للحياة، ونتاجًا لفنٍ متجذّر في صميم العلاقة بين الإنسان وبيئته. في المملكة حيث تتنوع الجغرافيا من الجبال إلى الصحاري، ومن السواحل إلى الواحات، نشأت مهنة الصباغة التقليدية بوصفها حرفة فنية وعملًا يدويًا قائمًا على مهارات دقيقة ومواد طبيعية محضة. وفي عام الحرف اليدوية 2025؛ نعيد تسليط الضوء على هذه الحرفة بوصفها تراثًا حيًا، يعبّر عن العمق الثقافي والوعي البيئي معًا. حرفة متقنة بين الفن والدقة يُعد استخلاص الألوان من المواد الطبيعية حرفة تقليدية دقيقة، تُمارس بتقنيات متوارثة عبر الأجيال. وتقوم الحرفة على استخدام النباتات، والأخشاب، والمعادن، وحتى الحشرات، لاستخلاص ألوان تُستخدم في صباغة الأقمشة، وتلوين الجدران، وصناعة أدوات الزينة، وزخرفة الأثاث. يبدأ العمل بجمع المادة الخام: كأوراق نبات الخَدِيش لاستخلاص “النيلة” الزرقاء، أو قشور الرمان لإنتاج الأصفر، أو جذوع شجر السِلب لإنتاج اللون البني. ثم تُجفف المادة وتُهرس وتُغلى في أوانٍ مخصصة، تُعرف في بعض المناطق باسم “الميحز”، ويُستخدم فيها عصا خشبية ذات رؤوس مدببة لتقليب العجينة حتى تكتمل عملية التخمير واستخلاص اللون. ويتم بعد ذلك تصفية الناتج في قطع قماشية سميكة تسمح بمرور السائل وتحتفظ بالتركيز اللوني، ثم يُترك المحلول في أوعية مفتوحة ليجف تدريجيًا تحت أشعة الشمس أو في الظل بحسب نوع اللون المراد تثبيته. بعد ذلك، يُكبس المستخلص أو يُعالج يدويًا ليأخذ هيئة قوالب أو مسحوق، يُخزَّن بعناية في أوعية محكمة لتفادي الرطوبة، ويشير عدد من الحرفيين السعوديين إلى أن فن الصباغة يتطلب معرفة دقيقة بتفاعل المواد العضوية، فكل نبات أو مكوّن يحتاج إلى زمن معين لاستخلاص لونه، ودرجة حرارة محددة لتفعيله، وبعضها يحتاج لإضافة مكونات مساعدة كتثبيت اللون أو إبراز درجته. وتُعد مهارة ضبط هذه التفاعلات من صميم الحرفة، حيث يُظهر الحرفي خبرته الحقيقية في إنتاج ألوان نقية لا بهتان فيها، ومتجانسة على الأسطح، سواء أكانت أقمشة أم جدرانًا أم مواد طبيعية أخرى. تراث ينبض بالأمل من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، تنوّعت حرفة الصباغة الطبيعية في المملكة تبعًا لتنوع بيئاتها، فكل منطقة امتلكت مواردها الفريدة، وابتكرت طرقها الخاصة لاستخلاص الألوان من رحم الطبيعة. في جبال فيفاء التابعة لمنطقة جازان، كانت النساء تتقن استخراج صبغة “النيلة” الزرقاء من أوراق نبات الخدِيش الجبلي، كما استخرجن اللون الأصفر من لحاء شجرة القاع، واللون البني من خشب السِلب، لصباغة الملابس بمختلف أنماطها. أما في نجد، حيث تسود البيئة الصحراوية، فقد اعتمد الحرفيون على التربة الحمراء والبركانية لاستخلاص اللون الأحمر، والفحم وسواد القدور لصناعة اللون الأسود، وهي ألوان ارتبطت بطلاء واجهات المنازل الطينية وزخارفها التراثية. أما في المدينة المنورة وتبوك، فقد استُخدمت قشور الرمان والكركم كمصدر طبيعي لإنتاج الأصفر، في حين استُخرج الأحمر القاني من حجر “المشقة”، وهو حجر محلي يُطحن ليُنتج صبغة قوية تُستخدم في تزيين الأبواب والنوافذ بلمسات زخرفية تقليدية. وفي عسير، تألقت زخارف القط العسيري، بألوان مستخرجة من التربة والنباتات، مثل الأخضر الناتج عن البرسيم، والأزرق المركّب من النيلة مع إضافات أخرى، لتعكس مشهدًا بصريًا متنوعًا يمزج بين الفن والطبيعة في تشكيل بيئة داخلية تنبض بالحياة والهوية. وفي مناطق البادية، برزت مهارات الرعاة والحرفيين في استخدام الأصباغ الطبيعية لتلوين خيوط الصوف والوبر، فكانت العباءات والسجاد تُنسج بخيوط مصبوغة بالكركم والفحم، تمهيدًا لصناعة منسوجات تحمل عبق الصحراء وطابعها التقليدي. وبهذا الشكل، لم تكن الألوان والأصباغ في المملكة مجرد زينة، بل ترجمة ملموسة لتفاعل الإنسان مع بيئته، وشهادة على عبق تراثي ظل حيًا رغم تغيّر الأزمنة. مهارة متوارثة أظهر الحرفيون السعوديون على مرّ الأجيال مهارة عالية في فن استخراج الألوان الطبيعية ومزجها، معتمدين في ذلك على أدوات بسيطة ومواد محلية بحتة، بعيدًا عن أي مكوّنات صناعية أو مواد كيميائية. فقد استخدموا أوعية من الطين أو الخشب لتخمير المواد، وعصيًّا خشبية لتحريك العجائن، وأقمشة قطنية كثيفة لتصفية المستخلص، إلى جانب أحجار مسامية تُستخدم في تثبيت الألوان وامتصاص الرطوبة. كل أداة كانت تؤدي وظيفتها بدقة، وكل خطوة تتطلب خبرة متراكمة في ضبط الوقت والحرارة والكمية المناسبة من كل مكوّن، لضمان خروج اللون بالنقاء المطلوب والثبات الكافي. وكان للمرأة السعودية، لا سيما في المناطق الجبلية والزراعية، دور محوري في حفظ هذه الحرفة، حيث كانت تمارسها داخل المنزل، فتُعد الأصباغ وتستخدمها في صباغة الأقمشة، أو بيعها في الأسواق المحلية، ما جعلها مصدر دخل مستقل، وفعالية اجتماعية تُمارس خلال اللقاءات والمناسبات. بل إن بعض مراحل الصباغة، مثل صبغ ملابس الأعراس أو الأثواب المطرزة الخاصة بالمناسبات، كانت تُقام في أجواء احتفالية مصغّرة، تتشارك فيها النساء الخبرة والألوان، وفق طقوس متوارثة تنبع من روح المجتمع المحلي. ومع أن هذه الحرفة تنتمي إلى الماضي من حيث أدواتها، فإنها تُعد اليوم من ركائز الاستدامة البيئية، حيث تُسهم الألوان الطبيعية في تقليل الاعتماد على الأصباغ الكيميائية، التي ترتبط بآثار ضارة على البيئة والإنسان معًا. وتشير تقارير بيئية حديثة إلى أن إعادة إحياء استخدام الأصباغ المستخرجة من النباتات والأحجار تُمثل توجهًا عالميًا للحد من التلوث في الصناعات الفنية والنسيجية. وهكذا تصبح الصباغة الطبيعية في المملكة مثالًا حيًا على التلاقي بين الأصالة والوعي البيئي، بين الفن النقي والمسؤولية المستدامة. رؤية تُعيد الحياة في ظل رؤية المملكة 2030، وتحديدًا ضمن مبادرات عام الحرف اليدوية 2025، تكثّفت الجهود الوطنية لإحياء فن الصباغة الطبيعية بوصفه تراثًا حيًّا يجمع بين الجمال والاستدامة. وقد لعب المعهد الملكي للفنون التقليدية دورًا محوريًا في هذا المسار، حيث أطلق حزمة من المشاريع والبرامج النوعية، شملت توثيق هذه الحرفة التقليدية ومصادرها المحلية المتنوعة، وتقديمها للأجيال الجديدة من خلال ورش عمل ودورات تدريبية متخصصة لتعليم تقنيات استخلاص الألوان الطبيعية بأساليب احترافية، تراعي الجوانب البيئية والصحية. كما تم إدراج مفاهيم الحرفة في مناهج التعليم الفني والثقافي، بهدف تعزيز الوعي بالتراث الوطني وربطه بالابتكار الحديث. وترافقت هذه الجهود مع دعم مباشر للحرفيين السعوديين من خلال برامج تمويل، ومبادرات تسويقية، ومساحات عرض داخلية وخارجية تعكس جماليات هذا الفن وتطبيقاته الواسعة، سواء في العمارة التقليدية، أو الأزياء، أو الزخرفة، أو تصميم المنتجات. وبينما تنظر معظم الدول اليوم إلى الماضي بحثًا عن حلول طبيعية ومستدامة لمشكلاتها البيئية، تملك المملكة في تراثها الحي ما يجعلها في طليعة من يجمع بين الأصالة والاستشراف، فصناعة الأصباغ الطبيعية ليست موروثًا راكدًا، بل فن ينبض بالحياة، يعكس عمق العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ويُجسّد فلسفة الجمال المسؤولة. ومع اتساع نطاق الاهتمام الرسمي والمجتمعي بهذه الحرف، تعود الألوان المستخرجة من رحم الأرض لتُمارَس وتُطوَّر، وتُدمج في الصناعات الإبداعية الحديثة، لتستمر في همسها البصري للأجيال القادمة، بلغةٍ منسوجة بخيوط الذاكرة، وظلال الطبيعة، وصدق الانتماء.