
تناولت رواية (ابنت ليليت) للروائي أحمد السماري الصادرة عن دار (رامينا) قلق الهجرة الذي عاشته البطلة بين روحانية الشرق ومادية الغرب، حتى أنها غيرت اسمها من (جواهر إلى جيلبيت) ! من المفارقات في الرواية حينما تعرضت (جواهر) لاغتصاب حقوقها المادية من قبل أخيها لجأت للوسائل القانونية لاستعادتها، بينما حين تعرض (جيليت) للاغتصاب الجسدي في أمريكا رتبت مع جارتها طريقة لقتل المغتصب على طريقة الأفلام الهوليدية. يبرز القلق الهوياتي للبطلة من خلال الاختلاجات النفسية التي تعيشها رغم ما حققته من نجاح في أمريكا، إلا أنها ما تزال تشتاق لوطنها. «خرجت ذات ليلة إلى شاطئ البحر.... فحرك هوى قلبي وحنينه إلى بلدي وبيتي القديم»، كما تتجلى ذروة الحنين للشرق بروحانيته حينما تذهب لبعثة تطوعية إلى موريتانيا بعد سنوات عاشتها في أمريكا، وعندما تجمعها الظروف بجدة مضيفهم في غرفتها تقول «عدت أدراجي إلى غرفة الجدة، فهالني ما رأيت، الغرفة معتمة، وهناك نور يشع من وجهها وهي نائمة، فينير المكان بنور أبيض مختلطة لأدخنة سماوية) هذا الوصف العرفاني يصدر من (جيليت) التي درست في الجامعات الأوربية، وعندما تحكي لها الجدة رؤيتها في منامها عنها تفسر كل الأحداث التي تمر بها برؤية الجدة! « بشري الحكيمة جواهر بأن الطير المهاجر سيعود إلى شجرته «،وتتعلم من حكمة الجدة الموريتانية وروحانيتها، بل تبثها همومها التي لم تستطع كل أدوية الطب النفسي في أمريكا منعها من الانتحار ! استمرت تعيش الصراع النفسي بين ما تعلمته في الغرب وحاجتها إلى الروح الشرقية التي افتقدتها. « عندما رفع أذان الفجر الأخير فقامت الجدة للصلاة، توجهت نحو النافذة..)، وهي تقول كأن النجوم كانت تريد أن تخبرها بشيء وسمعته من الجدة في إشارة إلى ارتباطها بعالم الروح والغيبيات أكثر من الغرب ومادياته، بل تعترف صراحة بتأثير حكمة وكلمات الجدة على نفسيتها أكثر من المحاضرات التي سمعتها في قاعات الجامعات الغربية، حتى كادت تفقد موازينها العلمية والتجريبية في نسق هذا العالم المختلط بين نظرية المعرفة العلمية بمذهبها العقلي، والمعارف الدينية بمذهبها الروحي والإيماني. اختارت العودة للروح توضأت وصلت الفجر خاشعة، بل تصل للذروة وهي الطبيبة المختصة حينما تعتقد أن شفاء المريض الذي طببته كان بسبب رؤية الجدة وليس الأدوية! وتصف في لحظات التجلي مشاعر اشتياقها للصحراء والعودة لبيئتها ولوضحت لأجلها بكل أهدافها وطموحاتها في الغرب. « إنها إشارات الصحراء وعلاماتها، ولكننا نتجاهلها أحيانًا، فالزمن يمر ........هنا تتوقف عما تفعل أوهنا عليك ترك هدفك) يزداد صراعها عندما تتعرض لصدمة ومؤامرة سياسية في الغرب حرمتها من حلمها للوصول للقمة وخسارة أفقدتها ثروتها بعد خوضها الانتخابات لتحقيق منصب سياسي لتتوجه بنجاحها العلمي - صورت جانب من الحياة السياسية في أمريكا، وما يدور في كواليسها من مؤامرات - «فأنت تعمل طوال حياتك بجد وبأقصى طاقة ممكنة، وتبني بجهدك وشرفك حجرًا حجرًا، وقبل أن يكتمل بناؤك بقليل يحدث انفجار فيجعلها كالصريم، هذه الحوادث هي خبز الحياة السياسية والإعلامية في أمريكا» تأتي الضربة القاضية لطموحاتها في بلاد (العم سام) بعد تعرضها لصفعة قاتلة حينما اعتذرت لها الشركة الممولة لبحثها وأنهت آخر أحلامها في الغرب، لتتدهور صحتها النفسية وتدخل في مرحلة اكتئاب أقعدتها في البيت وانقطعت عن العمل والحياة، وذلك حينما واجه بحثها عن استخدام الصمامات البديلة لمرضى القلب من أصل حيواني بديلًا من الصناعية اعتراضات من جمعيات الرفق بالحيوان ووجٍه بحملات لإيقاف ذبح (الزرافات) خوفًا عليها من الانقراض، وأنقذتها بيئتها الشرقية حينما وجدت في البيئة الصحراوية منقذًا لمشروعها لاستخلاص تلك الصمامات من رقاب (الإبل) المتوفرة، وفي أقصى لحظات الانكسار والتآمر عليها في الغرب تجد بؤرة نور من الشرق حينما تتلقى رسالة عبر بريدها بتبني جهة طبية سعودية دراستها بشرط إقامتها في الرياض. لم تجد ممن حولها في الغرب من تلجأ إليه إلا (الحاج متولي)، وهو عامل شرقي بسيط كانت تجد فيه الشخص الأقرب لروحها لدرجة أنها تعطيه أسرارها، وتصف له حالتها بروح المرأة الشرقية المغتربة. « أتصور كأنني أعيش في مأتم، أسمع خطى المعزين ذهابًا وإيابًا، ثم يُقرأ القرآن على روحي الهاربة، ويلقي الشيخ موعظة تقع مثل صوت الطبول، .....) مستذكرة حكمة العجوز في موريتانيا حينما قالت لها « أن الطير المهاجر سيعود إلى شجرته)، ولكنها كانت تشعر بقلق من عدم وجود الحنين للعودة، برغم مرور العقود من العمر، تركت وطنها وهي شابة، وها هي تعود إليه وقد قاربت الخامسة والخمسين. قبل مغادرتها لأمريكا وصفت تجربتها بالعاصوف، ولا تعرف كيف نجت منه، وتتساءل بقلق حينما تقول «وهل انتهى العاصوف؟ ربما أنجو منه !»، ولكن في داخلها كانت متيقنة أن( جواهر) التي غادرت بلدها لم تعد هي نفسها (جورجيت) التي رجعت إليها. تناولت الرواية أيضًا مفارقة بين هجرتين متعاكستين حينما تذهب (جواهر) لمحاضرة في أدبي الرياض للبرفسور (عبدالله طالب) وهو أستاذ جامعي أمريكي كان اسمه (دونالد باول كول) مختص في (الأنثربولوجيا) دخل الإسلام وتناول في المحاضرة رحلته من أمريكا إلى السعودية فمصر، وسطرها في كتابه (الطريق إلى الإسلام من تكساس إلى السعودية فمصر) لإجراء بحث ميداني في قلب الصحراء، ووصف حياة البداوة فيها بروحانية الشرق بعكس حياته المادية في الغرب، وانسجامه مع روحانيته ثم عودته لأمريكا بعد انتهاء بحثه، ولكنه وجد أنه يفتقد روحانية الشرق بسبب ظروف مجتمعه في الغرب وعاد إلى مصر. طرحت جواهر سؤالًا عليه يتعلق بهوية المهاجرين هل تكون الهجرة مجرد فكرة غبية لحقها صاحبها من دون إدراك حقيقي أم هي أمر فرضته الظروف الحياتية في وقتها؟! بينت الرواية ثيمة مختلفة بين (جواهر) الفتاة الشرقية التي هاجرت للغرب بحثًا عن الحداثة والعلم، وبين (عبدالله طالب) الذي وجد نفسه مغرمًا بروحانية الشرق. بدأت تتدهور حالة جواهر النفسية لأنها لم تستطع الوصول إلى نقطة التوازن بين الجانب الروحي والعلمي، وهوكان سبب قبولها الزواج التقليدي في الغرب-كما تصف لصديقتها- لأنها كانت شبه منهارة حتى قررت أن تتزوج كأية امرأة شرقية! الانتحار بتعاطيها مسكنات مميتة كانت النهاية التي اختارتها البطلة بعد تعرضها لنوبات نفسية إثر الصراع الذي تعانيه بين (جواهر) الشرقية التي أضاعتها و(جيليت ) الغربية التي لم تجدها. لخصت الصراع والقلق الذي عاشته في الرسالة التي كتبتها لابنتها ميلا « أن أخبرك أنني عشت حياتي حرة، ولكنني أموت اليوم مشتتة وتعيسة «