خيانــــة قَـلَـم

السخاءُ درجةٌ سامقة ، ومرتبةٌ باسقة . وليس كل سخاء يتعلق بِـقِرى ، أو يُبْذل لِفُقراء . بل إنِّي عايشتُ “ السخاء السخاء ! “  حينما شَرَعتُ باب قلبي مرحباً بصديق تسللَ إليه بهدوء ودخله دون إيماءات ليقرأ مافيه ويكتبني ويستمع نبضه فيُحررني . فوصل - واتّصل -  بأبعدِ نقطةٍ عَجز عنها الكثيرون ، لِيصبحَ شريك فكر  ، وخدين تدبر . فأكرمتُهُ من “ الألفاظ “حتّى فاض ، وأغدقته من “ السؤال “ حتّى سال . و من بساتين المعرفة قطفت له من كل غصن حرفا ، وهززت له جذع الكلمات هزا ؛ ليسّاقط عليه أدبا جما  . ليس هذا فحسب ، فقد جمعتُ له مع الكتابة   “الحجابة” فكان بمنزلة الحاجب في إدارة   - ملَكة و مملكة - فكري . يتولى أمر تنسيق العبارات ، وترتيب الجمل ، وتنظيم كافة الخواطر والرسائل . لم أفكر يوما أن أُحيله للتقاعد ، ولا أتذكر أني حاولت لحظة إعفاءه من منصبه أو الاستغناء عنه ؛ حتى والعالم الرقمي يسيطر على المشهد ، والبدائل  الذكية تأخذ زمام المبادرة . ذلك كله لم يزدني مع الأيام إلا تعلقا به ، و تقربا منه ، إلى أن جاء يوم من أيام الأدب الخالدة ، وميدان الكتابة يهتـز بصهيل الورق ، ويقرع طبول المواجهة بين  معشر - الأدباء-  كلا يشهر نصّه ، و يبرز حرفه ، ويسلّ خواطره .  لأعلنَ النفير ، وأستجدي العشير ؛ فإذا بي أجده يجف حبره ، و ينقطع مدده ، ويولي دبره . لا متحرفا لنزال ، بل متحيزا إلى استسلام .  علمتُ حينها أنه كان عميلا  لا خليل .  يقابل السخاء بالخيانة .   فما كان مني إلاّ أن اعتقلته  وحبسته في أدراج مكتبتي ، وحكمتُ عليه بالسجن المؤبد .