جيرة بلا حدود.

من هو جارك حقاً ؟ فقد يجيبك البعض بأنه من يسكن بجوارك خلف جدار أو باب، لكن الحياة تخبرنا أن الجيرة أوسع من حدود الحي وأطول من ظل المباني. فكم من جار جمعك به طريق لا بيت، أو مقعد في مركبة لا فناء، أو لحظة انتظار عابرة لا سنوات من المعايشة.تأمل المسافر الذي يجاورك في الطائرة، أو الراكب الذي يجلس بجانبك في القطار، أو السائق الذي ينتظر معك عند إشارة المرور. هؤلاء جميعاً، وإن فرقتكم الدروب بعد دقائق أو ساعات، فقد جمعكم ظرف مشترك يجعل بينكم حقاً من حقوق الجيرة، وإن كان عابراً. وحتى صاحب المتجر الملاصق لمتجرك، أو الزميل الذي يشاركك المكتب، أو الجالس على الطاولة المجاورة في مقهى… كلهم جيرانك بقدر ما تلامست حياتكم في مكان أو زمان واحد.هذا المعنى الواسع للجيرة لا يسأل عن دين أو جنسية أو لون، لأن الأصل فيه إنسانية العلاقة، لا هوية صاحبها. وهنا تتجلى عظمة الوصية النبوية التي لم تقيد الجار بحدود الحي ولا بعقيدة أو نسب، بل جعلته كل من أحاط بك إحاطة مكانية أو زمنية. ففي الحديث الشريف: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه” وهي وصية تحمل في طياتها دعوة إلى أن يكون الإحسان عادة لا استثناء، وشعوراً ممتداً لا مرتبطاً بمكان واحد.ولعل في قوله تعالى: “وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ” بعداً أوسع مما اعتدنا في الفهم الشائع. فالمفسرون حملوا “القربى” غالباً على القرابة في النسب، لكن أصل اللفظ في اللغة يشمل أيضاً القرب في المكان. ومن هذا المنظور، يصبح كل من يقترب منك موضعاً أو يجمعك به ظرف مشترك، ذا قربى له حق عليك، وهو ما يلتقي مع جوهر معنى الجيرة التي قد تكون قرابة في الدم أو قرابة في المكان، دائمة كانت أو عابرة. وقد جاء هذا المعنى أكثر وضوحاً في قوله تعالى: “وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ” حيث وسع الخطاب القرآني دوائر الجيرة، فجعل للجار القريب نصيباً من الحق، وللجار الأبعد نصيباً كذلك، دون أن يحصر الإحسان في المسافة الأقرب وحدها. وهذا التدرج في الخطاب يعكس أن الجيرة قيمة ممتدة، تبدأ من الجدار الملاصق ولا تنتهي عند حدود الشارع أو الحي، بل تمتد إلى كل من جمعتك به مساحة أو لحظة أو طريق. وحين نفكر في حقوق هؤلاء الجيران بمفهومهم الواسع، نجد أنها تبدأ من أبسط الصور: حفظ الخصوصية، ومراعاة الهدوء، وكفّ الأذى، وتقديم يد العون. قد تكون يدك هذه في شكل كلمة طيبة، أو ابتسامة مخلصة، أو موقف نبيل يخفف عن الآخر عناء الطريق أو مشقة الانتظار. فالجيرة هنا ليست عقد إيجار ولا امتداد سور، بل التزام وجداني يتكرر كلما شاركك أحدهم مساحة من الحياة. حتى اللحظات العابرة يمكن أن تترك أثراً لا يزول؛ ربما يذكر المسافر بعد سنين ابتسامتك يوم كان متعباً، أو يظل موقفك الكريم عند إشارة المرور عالقاً في ذهن سائق لم تره بعدها. وحين تحسن لجارك، أياً كان، فأنت في الحقيقة تحسن لنفسك أولاً، لأنك تبني عالماً من المودة ينعكس عليك قبل غيرك. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نموذجاً لهذا الخلق حتى مع جيرانه من غير المسلمين، فيقبل هداياهم ويعود مرضاهم، ليؤكد أن الجيرة الحقة لا تعرف حدود الانتماءات. إن الجيرة الحقة ليست عنواناً على باب البيت، بل هي الأثر الطيب الذي يظل في قلب من شاركك الطريق ولو مرة واحدة. وحين ندرك ذلك، نكون قد نقلنا مفهوم الجيرة من جغرافية الجدران إلى جغرافية القلوب.