الذكاء الاصطناعي والمستقبل المرعب.

يذهبُ كثيرٌ من ممولي الذكاء الاصطناعي ومديري شركاته التكنولوجية إلى ابتداعِ أساليبَ خاصةٍ في تهويلِ أمرِ أنظمتهِ وتطبيقاتهِ من ناحية ما يُصرحون به من سيناريوهاتٍ مستقبليةٍ، تدورُ غالبيتها حول قدرة الذكاء الاصطناعي على تحقيق ما هو مستحيل. وتستلُّ تلك السيناريوهات من رواياتِ الخيال العلمي مثل رواية( أوديسا الفضاء) لارثر كلارك، وكأنَّ الذكاء الاصطناعي مصباحُ علاء الدين السحريّ، المنتظر منه أن يقومَ بكل شيء. وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ سيناريوهات تهويل مستقبل الذكاء الاصطناعي ليست بالجديدة؛ فمنذ أنْ أطلق جون مكارثي اسم “الذكاء الاصطناعي” عام 1956 والشركاتُ تتبارى فيما بينها بحثًا عن التفردِ والتفوقِ في استمالةِ المستهلكين نحو منتجاتها. ولطالما وَعدتْ الشركاتُ الكبرى في القرن العشرين أنها ستطورُ الذكاء الاصطناعي بشكل خارقٍ، وتقدمُ انجازاتٍ مستحيلة التحقق. مما كان العلماءُ أنفسهم قد فنَّدوه وعدّوه تخريفًا وضربًا من الخيال. ومن أمثلةِ الانجازاتِ التي تنبأتْ بها تلك الشركاتُ إنشاء محطاتِ الطاقة الاندماجية، وصنع السيارات الطائرة، والسفر عبر الزمان. ولقد مضى القرن العشرون ولم تحصلْ تلك الانجازات. وتقفُ جملة عوامل وراء تعظيم مستقبل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، في مقدمتها العامل التجاري؛ فالشركات الرأسمالية المنتجة لأنظمة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي تعمل على وفق اقتصاديات السوق. ومن ثم هي لا تستغني عن الترويج والدعاية الإعلانية في تسويق بضاعتها والترغيب بمنتجاتها. وتؤدي وسائلُ الإعلام من صحافة وإذاعة وتلفزيون وسينما فضلًا عن وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات اليوتيوب وبرامج البودكاست ومواقع الشراء والتسوق، دورًا مهمًا في عمليات الترويج الإعلاني والجذب التجاري. فالذكاء الاصطناعي في عصرنا الحالي أهم سلعة في التجارة العالمية، تحتكرُ صناعته وتطويره شركات بعينها، تتبارى فيما بينها بشكل دؤوبٍ على ابتداع طرائق خاصة تضمن من خلالها توصيل التقنيات والتطبيقات إلى أكبر عدد من المستهلكين عبر تقديم عروض مغرية ونماذج جديدة تثير الفضول وتدفع إلى الاقتناء من قبيل إضافة مواصفات خاصة غير متاحة في التطبيقات السابقة أو ابتكار آلات ذكية فائقة في سرعة الانجاز أو تهويل وظائفها والتخويف من مستقبلها. وكلما كانت إغراءات الدعاية قوية وسيناريوهات الإعلان مثيرة، ارتفعتْ نسبةُ الذين يُقبلون على استعمال تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات الحياة العامة. وكثيرةٌ هي طرائقُ تهويل مستقبل الذكاء الاصطناعي، لكن أكثرها قوة تلك التي موضوعها التحذير من الآلات ذاتية العمل( الروبوتات) وكيف أنها ستستحوذ على الوظائف وتحلُّ محل البشر أو أنها ستتجاوز نطاق السيطرة البشرية بسبب ما لها من قدرة على التفكر والشعور بالاستناد إلى ما فيها من مستشعرات خاصة، تجعلها في غنى عن وجود العنصر البشري في أداء الوظائف وانجاز الأعمال. علما أن تقارير علماء الذكاء الاصطناعي تؤكد أنَّ نجاح الآلات الذكية يتوقف بشكل أساس على وجود العنصر البشري بوصفه موجهًا ومدققًا، أي أنَّ الآلات وإن كانت تشتغلُ بطريقة التحكم الذاتي من تلقاء نفسها، فإنها تظلُّ بحاجةٍ إلى المراقبة البشرية من أجل التحقق من فعالياتها والتدقيق في مخرجاتها. ومن أمثلة إهمال عاملي التحقق والتدقيق البشريين في عمل تلك الآلات، ما حصل لشركة كابتال الأمريكية حين أخطأت البرمجة المالية للآلة الذكية، فتسبب ذلك في خسارة الشركة 440 مليون دولار في غصون 40 دقيقة. ولا يقتصر وجود العنصر البشري في استعمال تطبيقات الذكاء الاصطناعي على الصعيد المالي حسب، بل يشمل الصعد الأخرى مثل الرعاية الصحية والنقل والاتصالات والاقتصاد والألعاب والموسيقى والقانون والكتابة الإبداعية وغيرها من المجالات التي هي بحاجة دوما إلى التحسين والمراقبة البشرية، وبما يضمن الكفاءة والدقة في عمل الحواسيب والروبوتات. أما المجال الأمني والاستراتيجي مثل التسلح العسكري والأمن السبراني والسباق النووي وغزو الفضاء، فيبقى تطوره سريًا للغاية. بيد أنَّ من المهم التذكير هنا بحقيقتين رئيستين: الأولى هي أنَّ الآلة الذكية لا تقدر على القيام ببعض الأعمال مثل الإحساس بالوقت صباحا او مساء صيفا او شتاء أو التصرف على وفق موقف معين والانفعال به بشكل مفاجئ. والحقيقة الثانية هي أن افتراضات الآلات الذكية ليست صحيحة دائما، وأن احتمال وقوعها في الخطأ أمر وارد. واستنادا إلى هاتين الحقيقتين، يكون مهما التفريق بين ما يقدمه منتجو الذكاء الاصطناعي ومدراء شركاته من دعايات إعلانية تعظم مستقبل تطبيقاته، وبين ما يؤكده العلماء أنفسهم من حقائق تتعلق بحاضر هذا الذكاء ومستقبله. وتتوزع الدعاية الإعلانية لمستقبل الذكاء الاصطناعي بين مجموعات عدة، وتضم كل مجموعة منتجين تقنيين وعلماء ومفكرين. وكل مجموعة تتبع أساليب خاصة، تخوِّف من مستقبل قدرات الذكاء الاصطناعي بنوعيه العام والتوليدي، وهي بالمجموع تصب في باب الفوبيا الرقمية. مما نجده مثلا في بيان الأمريكية دونا هاراواي حول السايبورغ، وفيه ذهبت إلى أنَّ الآلة الذكية ستضاهي الدماغ البشري وأن البشر سيندمجون مع الآلات وينتجون جنسا ثالثا هجينا. ونجد مثل هذا السيناريو لدى ممولي شركات الذكاء الاصطناعي ورؤسائها التنفيذيين وبعض علماء الحاسوب والرياضيات أيضا مثل بيل غيتس وستيف وزنياك وكلاود شانون والان تورينغ وايلون ماسك. ولكل واحد من هؤلاء تصريحاته المرعبة حول قدرات الروبوتات في تغيير مستقبل الكرة الأرضية.