متحف الفيان ..

من قبة السماء يؤرخ لعبق التراب.

ما بين تطلع القيادة لمستقبل ثقافي مؤطر بالوعي الثقافي كضمانة حقيقة لهويتنا، ومصدر فخر لتحقيق الأهداف الوطنية الكبرى، وبين بناء جسور ثقافية ترضي سمو أحلام جيل التكنولوجيا، وعصر التحولات الاجتماعية، جيل جديد يحمل تيارات من المفاهيم المعرفية والفكرية، يجعلنا ملزمين بخلق ثقافة تجمع بين الأصالة والحداثة، وإحياء الموروث الثقافي والمجتمعي، وإعادة تقديمه بأساليب مبتكرة، وبصورة معظمة ومفخمة. لذا جاءت فكرة إنشاء متحف الفيان لتهيئة بيئة تحتضن التراث كعنصر حيوي في الهوية الثقافية، وليلبي شغف جميع الفئات العمرية وبتقنية “الحنين في حضرة الغياب” كما يقول محمود درويش. فعلى أعلى قمة جبل في محافظة القرى، في أقصى شمال الحلم التنويري لمنطقة الباحة، وعلى مقربة من هامات النجوم، وفي حالة عناق حميم بين السحاب والتراب، وبتحفة معمارية ذي خصوصية هندسية فنية محكمة على مساحة (800) متر تقريبا، يقف متعاليا “متحف الفيان” بين مزيج من السحاب والضباب والهواء، يرتل ثراء التاريخ البشري، ويسرد حكايا أنقى ما في قاع الذَّاكرة وتجاعيد الأيام السالفة، ويستبصر ما وراء غبار السنين وركام التاریخ، يؤرخ لمن مروا على أرصفة الطين من بقايا الزمن المدفون في رحم الأرض، أرضٍ فوق أرض يتلو بعضها لبعض أسرار الماضين وتحولات أحوالهم . ليس ماذكرت خلفية لمشهد أو ديكور يملأ الفراغ، ولكن لمركز ثقافي وحضاري، مزينا بكل أشكال الدهشة والمآثر الإنسانية. يزخر بالحياة والنشاط على أرضیة صلبة ورصینة، يستنطق الأمكنة والأزمنة، سفرٍ إلى الماضي، يفوح بعطر المعاصرة، يأتي كأقوى المنصّـات لحفظ هويتنا الثقافية وامتدادنا الحضاري. قامت عليه إنشاء ورعاية وتطويراعائلة الفيان، عائلة توارثت وتشربت الأدب، مسكونة بعشق الفن وحب التراث، لتعيد صياغة الماضي، وتنهض بهذا المنجز الاستثنائي، بمفاهيم ريادة الأعمال الثقافية، وبرؤية تحديثية مبتكرة تقرأه بكل حواسك كرحلة سردية لنص درامي مركب، بشذا التفرد على صنع الجمال والإبداع، ليكون له موقع على خارطة التراث الثقافي، وكل ذلك بالمجان، وفاء لإرث الأجداد، وكرمال عيون الأحفاد. جاء البناء الخارجي مزيجاً من الحجارة التي كانت تبنى بها البيوت القديمة، ومن الأخشاب والترابيات، ليعكس الهوية القروية، وليثري ملامح الأصالة لمنطقة الباحة، جامعا بين التراث والتاريخ والثقافة. استوحيت جماليات مقتنياته المذهلة من الإرث التاريخي العظيم للمملكة العربية السعودية المتجذر بعمق التاريخ في مرحلتي توحيدها الأولى والثانية، ويشمل المتحف المنحوتات واللوحات التي تنتمي لاتجاهات فنية متنوعة، وعلى ردهاته وممراته رفوف علقت عليها صور حكام المملكة، وكبار الشخصيات المؤثرة في المجتمع السعودي، والوثائق التعليمية ومجموعة كبيرة من الكتب والمجلات العلمية والمراسلات، والإصدارات النقدية والقطع النادرة الفريدة، وتتوزع معروضات المتحف من المشغولات الخشبية والخزف والأواني والحلي لتملأ مساحات واسعة من المتحف، ويضم أيضا أثرا فريدا وهو “حجر شاهد قبري” يعود إلى (453) هـ، ومصحف مخطوط بخط اليد يعود للعام (900) هـ، ويزخر بمجموعات متنوعة من النقوش الصخرية الموغلة في القدم، ومقولات حديثة كتبت في المتحف نقشت على الأحجار بالطرق القديمة. ويحتضن بشكل مرتب تراث المنطقة الجنوبية من الملبوسات التقليدية رجالية ونسائية، وأسلحة قديمة كالبنادق والسيوف وغيرها، أما بيوت القرويين البسطاء، وبقايا الأطلال حيث يسكن الحنين، فلها قصة وحكايا يرويها المتحف وينقل تفاصيلها الدقيقة بما يضمه من الأدوات الفلاحية، والحرفية ورحى الحب والشعير، وقِرَب الماء، ونماذج من الصناعات التقليدية كالسعفيات والفخاريات والجواهر والأزياء والقناديل التي تعبأ بالكاز، والمنسوجات والزجاج ووسائل الاتصال القديمة، كلها صممت بتشكيل روحي ووجداني ينبض بالحياة. وفي المرافق التكميلية، قاعة تمتد لأكثر من عشرين مترا لاستقبال المثقفين والزائرين الكبار، وبها مكتبة وكوخ للقراءة والكتابة، أما الساحات الخارجية فيستضيف المتحف بها الاحتفاء بالأيام الوطنية، والفعليات الثقافية والفنية والعروض الشعبية طوال العام. مع وعد أكيد ـ أبشر به ـ إنشاء قاعة فاخرة دائمة مخصصة للفن التشكيلي تستوعب جميع فناني المنطقة التشكيليين. ولأن ثلاثية: الكتاب، وفنجان القهوة، والكعكة الساخنة، لا تكاد تنفك عن بعضها، يبرز مقهى أنيق يطل على طريق الملك عبدالعزيز من علو شاهق، يعتمد في إنارته على ضوء الشمس ونور القمر ... مفتوحاً ومتاحاً لمن ينشد الصفاء ونقاء الروح، كمكان ذي ألفة حميمية، مع صوت موسيقى مفعمة بالنشوة ومدارج الارتقاء، في فضاء بانورامي مفتوح للاحتمالات والتخيلات، وكأنه خيال قصيدة في ضمير البحتري، ليجعلك في حالة سيريالية مدهشة بين بساتين من البشر. صالح للثرثرة، وملهم لكتابة قصيدة، ومحفز لممارسة رياضة السجالات والنقاشات الأدبية والثقافية .