توقير الأقلام

حظي القلم باحترام وتوقير كبيرين منذ بدء استخدامه وحتى اليوم. ورغم تغير شكله من زمن لآخر وتطوره، وتغير المادة التي يكتب عليها، فإن القاسم المشترك بينها كان تخليد الأفكار والمعتقدات والعلوم والخواطر على مر الزمن، مقاومًا عوامل التغيير بمختلف صنوفها. وهكذا فقد استمر تطور شكل القلم حتى وصلنا اليوم إلى الكتابة على الشاشات أو باستخدام لوحة مفاتيح الحواسيب، وربما الكتابة عبر نطق الكلمات ليقوم الجهاز بتحويل الصوت إلى حروف، وما هذا إلا انعكاس لمكانة القلم الذي أقسم الله تعالى به حين قال عز من قائل: ﴿ن والقلم وما يسطرون﴾. كذلك كان هناك قاسم مشترك آخر في التعامل مع القلم، وهو التوقير المتواصل عند مختلف الشعوب والحضارات والحقب التاريخية، وذلك بدرجات متفاوتة؛ علوًّا وانخفاضًا، اعتمادًا على عوامل يصعب حصرها. أما دلالة هذا التوقير فهي أهمية ما يؤديه، وتأثيراته على من يقرأ نتاجه، حيث يعد من أبرز وسائل التأثير وتحفيز الناس نحو واقع أفضل حين يُعطى ما يستحق من توقير. أما حين تزوى الكتب، ويقل الاحترام للقلم وحامليه، ويصبح في ذيل قائمة الاهتمامات، فإن تأثيرها يقل حد الاضمحلال في مقابل أمور أخرى أقل أهمية وأكثر تفاهة. والتساؤل المطروح هنا هو: ماذا تبقى من توقير للأقلام في زماننا؟ وهل بقي الناس يقيمون له اعتبارًا واحترامًا وقداسة، كما كان الحال سابقًا؟ الحقيقة أن توقير الأقلام وحملتها قد تغير كثيرًا للأسوأ في السنوات القليلة الماضية، متأثرًا بعوامل عديدة ليس أقلها التطور التقني، المتمثل في الأجهزة الذكية، التي غطت مختلف مناحي حياتنا، وأصبحت في متناول الجميع؛ صغيرهم قبل كبيرهم، ملاحقة إياهم طوال اليوم والليلة وحتى أثناء النوم حين تستخدم بعض الأجهزة والتطبيقات لعدة أغراض؛ منها قياس جودة النوم ومدته، وربما الوقت الذي يستغرقه المرء حتى يدخل في النوم. هذه العوامل وغيرها، ومن ضمنها تغير مزاج الجيل الجديد في تعامله مع القراءة والقلم، قلب المعادلة وغير موازين اللعبة لغير مصلحتها، خالقًا حالة من الفطام بين الناس والكتب، ما جعل أمورًا أخرى مختلفة في صدارة المشهد العام. أما كيف نتجاوز ذلك ونعيد للقلم وحملته أَلَقَهم فذلك يبدأ-ولا بد- منذ الطفولة المبكرة، وحتى قبل أن يتعلم الطفل الحروف ومسك الكتاب والقلم. يبدأ ذلك بتعلم الطفل حب الكتاب حين يشاهد والديه دائمي الإمساك بالكتاب، ولا يكتفون بمجرد النصح. يجب عليهم أن يتعودوا على حب الكتب وتوقير الأقلام كما يتعودون على الأفعال الطيبة وعلى العبادات الواجبة، حتى قبل أن يفهموا ما يقال فيها؛ لأننا نعلم أنهم سوف يفهمون ذلك لاحقًا. بعدها ينبغي أن يكون القلم في أعلى قائمة الاهتمامات، وأن يوضع في المنزلة التي يستحقها في مجمل المنظومة الاجتماعية، مع حشد للجهود على مختلف الصعد وفي كل المستويات، مع ترجمة ذلك إلى خطوات عملية تضمن استمراريته في مختلف مناحي الحياة.