في كتاب (جميل البارودي سيّد الأمم) لمحمد عبدالله السيف..

عالم الآثار الذي أصبح محامياً عن القضايا العربية .

قضيت في الأيام الماضية وقتاً ممتعا في قراءة كتاب (جميل البارودي سيّد الأمم المتحدة) الصادرعن دار جداول للنشر والذي يحتوي على (260) صفحة تضم عناوين متنوعه سلّطت الضوء على حياة (جميل البارودي) والحالة المعيشية والعلمية لمجتمعة، والتحولات التي مرت على حياته. أشار الباحث في المقدمة بأن جميل البارودي من أفصح خطباء المنبر الدولي، بحضوره اللافت عبر خطاباته التي اتسمت بالحدّة، وبالبلاغة، لكنه مع هذه المكانة التي تبوَّأها دولياً لم يحظَ باهتمام الباحثين، بما يتناسب مع شهرته؛ ولم تسلط الأضواء على مسيرته، الغامضة في بعض جوانبها والخاصة على وجه التحديد، وهذا من الأسباب التي دعت الباحث للغوص في غياهب سيرة الدبلوماسي جميل البارودي، فكانت البداية بالحديث عن جذور عائلته التي ينتمي إليها وأشهر أعلامها قديماً وحديثاً، وعن نشأة (جميل) وتعليمه، وعن والده (مراد) الذي نشأ في سوق الغرب ودرس في مدارسها ثم انتقل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وتخرج فيها (تخصص صيدلة وكيمياء) وحاز على إجازة في القانون، وعُد شخصية اجتماعية وسياسية في آن واحد مما جعل السلطان عبدالحميد الثاني أن يلقبه بـ(البكوية). اهتم: مراد البارودي بعلم الآثار دراسة وجمعاً وتملكاً، ونقّب عنها، واستملك قلعة الحصن في سوق الغرب، وكتب عن محتوياتها، وأهدى نماذج من روائع الفن الفينيقي والأغريقي والروماني إلى متحف الجامعة الأمريكية، والمتحف الوطني في بيروت. بالإضافة إلى امتلاكه مكتبة تسمى (الخزانة البارودية) تحتوي على نفائس ومخطوطاتٍ وكتبٍ قيّمة. وكل هذه المقومات الثقافية التي حظي بها مراد البارودي والحالة التعليمية والثقافية والأدبية بـ(سوق الغرب) في الفترة التي واكبت مولد جميل البارودي وعاش جزءً من أحداثها ونهل من معارفها وعلمها وتتلمذ على يد أعلامها ومشاهيرها، أسهمت في نبوغ عقله تعليمياً وسياسياً، على الرغم من أنه فقد والده ولم يتجاوز(13)عاما من عمره. ولد: جميل البارودي في بلدة سوق الغرب عام 1905م، وفيها نشأ وتعلم وعاش طفولته وشبابه متنقلا بين بلدة سوق الغرب وبيروت يعيش أجواء أدبية وثقافية ساعدت في تكوين فكرة الثقافي وتنمية ملكته الأدبية، تذوّق خلالها الشعر، وكتبه، وأصدر ديوانٍ بعنوان(ديوان) في عام تخرجه من الجامعة الأمريكية 1926م. كانت المؤشرات تشير إلى أن جميل سيكون مثقفاً وأديباً يشار له بالبنان لكن الحياة بصعوباتها ومعاناتها كان لها رأي آخر ففي عام 1929م خطفته الغربة شاباً لم يتجاوز الرابعة والعشرين من العمر فسافر إلى فرنسا وبريطانيا بحثاً عن العمل بالتجارة، لكنه ظل وفياً لوطنه لم تمنعه الغربة من متابعة ما يحدث في الشرق الأوسط من مستجدات وأحداث. ولأن الحياة لابد من مرورها بمراحل انتقالية لا يتنبأ بها الشخص قبل حدوثها فقد كان لشقيقته(سامية) فضلاً بعد الله في تحسّن حياته حين حصلت على لقب (ملكة جمال لبنان وسوريا) وملئت شهرتها الآفاق ليتقدم لخطبتها رجل الأعمال (شارل قرم). وحين شاركت لبنان في معرض (أكسبو نيويورك) لأول مرة بدعم وتمويل من (شارل قرم) الذي طلب من جميل أن يحضر فوراً من لندن إلى نيويورك لمساعدته بإدارة الجناح، عُيِّن خلالها(جميل) أميناً عاماً للجمهورية اللبنانية في المعرض الذي تشارك فيه 60 دولة، لفت فيها جناح لبنان الأضواء من العارضين الكبار، ونال الإعجاب من الزوار، وحقق ألبرت الريحاني جائزة أفضل ناشر، ومنح عمدة مدينة نيويورك، فيوريو هنري لقب (مواطن شريف) لـ(شارل). قرر جميل بعد نهاية المعرض العودة إلى لندن لكن شارل نصحه بالبقاء حين لاحت في الأفق تداعيات الحرب العالمية الثانية وأشار إليه أن فرص العمل هنا أوسع وأفضل. أما نقطة التحول المهمة في حياة: جميل البارودي أنه في عام 1939م، تعرّف على الأمير: فيصل بن عبدالعزيز آل سعود أثناء زيارته لبريطانيا ، حينما رأسَ وفد بلاده المشارك في مؤتمر الدائرة المستديرة في لندن عززها اللقاء الثاني بالأمير فيصل أثناء زيارته الأولى لنيويورك، وكان يحمل رسالة من والده الملك عبد العزيز إلى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، فكوّن هذا اللقاء علاقة وطيدة بينهما، وأعجب الفيصل بقدرات ومهارات البارودي لينقله بعد عامين من اللقاء إلى عالم الدبلوماسية الدولية، مؤسساً للمكتب الدبلوماسي السعودي فيها. يمتلك البارودي سعة ثقافية وسرعة بديهة وإيماناً بقضايا أمته العربية عامة والقضية الفلسطينية خاصة، وتميز بخطاباته، ومداخلاته التي لامست كل قضايا الساعة، وتركت أثراً خالداً، ومن أبرزها القضية الفلسطينية، وله مواقف عديدة في هذا الشأن منها أنه تصدى لقرار تقسيمها معتبراً قراراً فُرض للعالم، مطالباً باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، وحين قال المندوب الأمريكي إن((نضال إسرائيل في سبيل البقاء نضال شرعي)) رد عليه البارودي قائلاً(( أوليس من حق الفلسطينيين أيضاً أن يناضلوا من أجل بقائهم وعودتهم إلى ديارهم؟ ..)). ولأن البارودي أصبح محل ثقة فقد عهد إليه الأمير فيصل بن عبدالعزيز متابعة أبنائه حين انتقلوا للدراسة في أميركا في نهاية الخمسينيات، ومطلع الستينيات الميلادية، على أن يرسل تقريراً شهرياً عن كل فرد وما يتعلق به من حالته التعليمية، صارماً ودقيقاً معهم في الحد من الإهمال، وكان يقتطع من مكافأتهم الشهرية (100)دولاراً من أصل(220)دولار يحفظها لهم في حساب استثماري لكل واحداً منهم، ويحثهم على بذل الجد والاجتهاد. أمضى جميل البارودي ثلاثة عقود في ردهات المنظمة، بحضوره اللافت وخطاباته الحادة والجادة الصادقة، والساخرة في بعض الوقت لكنه طيلة عامي 77 و 78 عانى من مرض ألم به، وفي عام 1979م، دخل مستشفى (لينوكس هيلو) في يناير، ولفظ أنفاسه الأخيرة في 5 مارس . وقد نعاه الدكتور كورت فالدهايم، الأمين العام للأمم المتحدة، قائلاً: (إن الأمم المتحدة قد خسرت واحداً من أقدم أصدقائها وأكثرهم تمتعاً بحب الآخرين، إن ذكاء السفير البارودي وبلاغته ومدخراته الثقافية الواسعة من المعلومات جعلته منذ وقت طويل علامة مألوفة ومحبوبة في الأمم المتحدة). وقد وجّه كورت فالدهايم بإنزال عَلَم منظمة الأمم المتحدة إلى نصف السارية تقديراً وتثميناً لجهود جميل البارودي.