مغرور VIP.

حدثني أحد الأصدقاء، وهو ممن يعملون في مجال الوساطة العقارية، عن موقف غريب لم يخل من الغرابة ولا الخيبة. يقول إنه كان جالساً في مكتبه ذات يوم، فإذا بشخص يوقف سيارته أمام المكتب ويؤشر إليه بيده بإلحاح، وكأنه يستدعيه لمهمة طارئة. نهض صاحبنا وتوجه إليه، ظناً منه أن الرجل يعاني من إعاقة تعيقه عن النزول من مركبته. لكنه ما إن اقترب حتى وجد رجلاً شاباً، صحيح البنية، لا يبدو عليه أثر عجز أو مرض. بادره الرجل، بصوت ينضح بالاستعلاء: “معك الدكتور فلان الفلاني... أستاذ في الجامعة الفلانية.” ثم بدأ يسأله عن العقارات، بصيغة تحمل من التعالي والترفع ما يثقل القلب قبل الأذن. دعاه صاحب المكتب بلطف إلى الدخول ومواصلة الحديث في الداخل، فقال صاحبنا بتعجرف: “أنا على عجلة من أمري.” لكن المدهش أن تلك “العجلة” امتدت إلى أكثر من عشرين دقيقة، وهو جالس في مركبته المكيفة، يتحدث بينما الوسيط واقف بجواره في حر الشمس. هذا المشهد البسيط كان كافياً ليستدعي في ذهني تلك المفارقة القاسية: أن الترفع على الناس لا يرفع الإنسان، بل يكشف هشاشة ذاته التي توهمت الرفعة بينما هي تنحدر إنسانياً دون أن تدري. يقول الله عز وجل: “وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا” وهو نهي إلهي عن الكبر والغرور، فكما جاء في تفسير الطبري: أي لا تمشِ متبختراً مختالاً فخوراً، فإنك مهما بلغت من الغطرسة والعلو، فلن تخترق الأرض بغرورك، ولن تصل إلى الجبال طولاً بكبرك. ويقول الله عز وجل في موضع آخر: “إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُم بِبَالِغِيهِ” وهي آية تحمل في طياتها حكمة عميقة، فالكبر مهما استوطن الصدر، وتضخم في النفس، فإنه كبر خادع، لن يمكن صاحبه من بلوغ ما يتوهمه من الرفعة أو السيطرة أو الانتصار. لأن الكبرياء الحق لله وحده، وأي تعال على الناس لا يزيد صاحبه إلا وهناً في عين الله والخلق، ولو بدا للناس أنه في موضع قوة. فالمال والمنصب والعلم، بل حتى الألقاب، لا تمنح الإنسان حق التكبر على الآخرين. فكلنا في نهاية الأمر بشر، يمرض أحدنا من ضرس، وينكسر خاطره من كلمة، ويهوي فجأة من قمة مادية أو معنوية بسبب مرض، أو خسارة، أو بلاء. أيها “المغرور VIP”، تذكر أنك ما زلت تحمل جسداً هشاً، وروحاً قابلة للكسر. تذكر أن الكرامة لا تطلب بالخيلاء، بل تكسب بالتواضع. فالعظمة الحقيقية لا تقاس باللقب أو الشهادة أو عدد الأتباع، بل تقاس بمدى شعور من حولك بكرامتهم في حضرتك. فمن كان سبباً في رفع معنويات الآخرين لا كسرها، وفي تعزيز ثقتهم لا إحراجهم، فهو العظيم بحق. وأعظم الناس هم أولئك الذين لا يشعر من حولهم أنهم صغار، لأنهم لا يتكلمون بتعالي، ولا يتعاملون بفوقية، بل بلغة تساوي الإنسان بالإنسان، وتشعره أنه مرئي ومسموع ومحترم. ورسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - أعظم مثال في ذلك؛ فهو أعظم الخلق، ومع ذلك لم يكن أحد من أصحابه يشعر بأنه دون قدر أو منزلة في حضرته، وكان كما وصفه ربه: “وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ”.