سردية الذات في مخارج الرياض.

في قلب مدينة الرياض، حيث يلتقي الامتداد الأفقي بالصعود الرأسي، وحيث تتجاور الصحراء مع البنية التحتية المتقدمة، تتحول مخارج المدينة من مجرد نقاط عبور إلى دلالات عميقة تتجاوز وظيفتها المرورية ، المخارج هنا ليست مواقع مرورية أو مسارات على الخريطة ، بل مفاهيم فكرية تشكل تجربة الإنسان في المدينة ، ومن اللحظة الاولي قد يبدوا الترقيم المتسلسل للمخارج مجرد نظام وظيفي ، لكنه يعبرعن نزعة عقلانية تخضع المكان للتنظيم المحكم ، هذا الترقيم هو تعبير عن الرغبة في السيطرة على العشوائية . رغم أن الأرقام تبدو في ظاهرها محايدة وموضوعية، فهي في الواقع تحمل معان تتشكل عبر التفاعل اليومي بين الإنسان والمكان ، مثلا مخرج رقم «7» ، قد يبدأ كرمز تنظيمي بحت، لكنه يتحول مع الزمن إلى علامة ثقافية غنية بذكريات وتجارب الناس، هذا التحول يُظهر عدم جمود وانفصال النظام عن الواقع الاجتماعي ، بل يتم إعادة تفسيره وتشكيله من خلال الممارسة الإنسانية، فتصبح الأرقام أكثر من مجرد رموز، ومداخل لفهم معاني متجددة تحملها المدينة في ذاكرتها الحية. المخرج هو نقطة تتراكم فيها الطبقات الزمنية ، فالذاكرة الحضرية تنطبع على الجدران، عند الحواف، وتحت اللافتات ، كل مخرج قد يشهد لحظة مفصلية في حياة المدينة سواء كانت توسعة، هدم، تحول اقتصادي .. المكان هنا يحتفظ بالزمن ، والمدينة لا تُحكى فقط من خلال مؤسساتها، بل من خلال نقاط عبورها. المخارج المؤدية إلى الدرعية -العاصمة الأولى للدولة السعودية- ، تتجاوز الأبعاد الجغرافية لتجسد انتقالاً زمنيًا وثقافيًا .. الدرعية ، بتاريخها وعمارتها تمثل الوعي التنظيمي ، والمخرج الذي يقود إليها يصبح مفصلاً بين زمنين الحاضر والماضي. هذا العبور ليس مجرد انتقال مكاني، بل هو فعل وجودي ، فدخول حي الطريف يعني استحضار الجذور وإعادة تعريف المدينة عبر تاريخها العريق. من تصميم المخارج إلى جمالية اللوحات، ومن انسجام الألوان إلى ترتيب التفاصيل، هذه ليست عناصر شكلية فقط، إنها أدوات ثقافية تصوغ الوعي وتوجه السلوك .. المدينة، عبر ملامحها، تعلّمنا كيف نعيش. تحسين المشهد الحضري يساهم في تشكيل الذوق العام، ويعمّق العلاقة بين الفرد والمكان. المدينة ليست خلفية صامتة لوجودنا، إنها شريك فيه، تشاركنا الحياة وتعيد تعريفها. الجمال هنا ليس ترفًا، بل ضرورة حضارية تؤسس لما هو إنساني في العمران. كل مخرج في الرياض هو قرار، لكنه قرار لا يحدث في فراغ، إنما داخل منظومة دقيقة من المسارات المخططة بعناية ، لتمنح السائرين وضوح الاتجاه وسهولة الوصول ، في كل لحظة عبور يشارك الإنسان في حركة المدينة، يختار من بين طرق صُممت لتفتح له الآفاق المتعددة دون أن تُربكه ، هذه البنية الذكية تعبر عن نوع راقي من الحرية ، حرية تقوم على توفير الإمكانات، لا على فوضى الخيارات ، فالرياض لا تفرض المسار الواحد ، لكنها ترتب اختياراتك بحكمة، فتجعل كل قرار تسلكه يتصل بشبكة كبرى من المعنى والتنسيق ، فيتحول المخرج من مجرد نقطة عبور، الي رمز حضاري لفلسفة التنظيم التي تحترم الإنسان وتمنحه الشعور بالقدرة على الحركة الواعية، هي حرية مُحددة من قبل ، لكنها ليست مقيدة، ومحسوبة بدقة ليظل الفرد جزءا من المدينة، لا تائها فيها. الرياض لا تكف عن التمدد، وفي الوقت نفسه تعيد تشكيل نفسها. تُفتح طرق جديدة، وتُطوَّر أخرى، فتبدو المدينة ككائن حيّ يتحرك ويتجدد. هذا التغيّر المستمر يعكس حيوية المكان، ويشير إلى مدينة تراجع ذاتها، وتعيد ترتيب علاقتها بمواطنيها، وماضيها، ومستقبلها مع كل دورة زمنية. حين يُصبح المخرج مرادفا لهوية، فإن المدينة تدخل حيز المعنى ، أن يقول أحدهم «أنا من مخرج 9» هو إعلان ضمني عن انتماء، نمط حياة، وربما طبقة ... هذه الرمزية لا تُفرض، بل تتشكل عبر الزمن والتجربة. فالإنسان لا يسكن المكان فقط، بل يسكن معناه. والمكان حين يُحكى، يصير هوية نعيشها . المخارج ليست مجرد مفاصل مرورية ، إنها لحظات عبور، نقاط قرار، وشهادات صامتة على التغير الحضري والثقافي ، في كل مخرج تلتقي ثلاث قوى « البنية، والذاكرة، والاختيار» فالمخرج يُجسد لحظة مواجهة بين الإنسان والمكان . المخرج لا يُخرجك فقط من طريق، بل يدخلك في إدراك جديد للمدينة ولنفسك ، هو إعلان حضاري بأن المدينة ليست مجرد إسمنت وحديد، بل سؤال مفتوح عن كيف نعيش، وكيف نتحرك، وكيف نحفظ ذاكرتنا ونحن نمر بها كل يوم.