
1 إنها شاعرةٌ فاتنة ، عاشت قصة حبٍّ مشتعلة مع زوجها ، هذا الحب أذكى فيها جمرة الشعر الذي يأسر القلب ، كما أذكى رحيلُهُ الجحيمَ في أعماقها ، إنها التشيلية غابرييلا ميسترال التي كتبَتْ شعرًا بسيطًا بيد أنه كان حارقًا وعميقًا في آن ..الأمر الذي جعلها تحصد جائزة نوبل في العام 1945 ..الشاعر العراقي الكبير حسب الشيخ جعفر ترجم لها مختارات فاتنة صدرت في كتاب عن دار المدى بدمشق ، هذه الشاعرة مفتونة بالطبيعة : النخل والبحر والريح والغصون ، أليست هي التي قالت إن “ النخيل ينحني فوق رأسيَ كالأمهات “ ، ألم تقل إن “ النساء يهدهدن البحر ليلاً وكأنه طفلٌ قرب موقد “ ،ألم تقلْ : “ أنا أعبقُ برائحةِ الأرضِ والحدائق “ ..هذه المفتونة بحبيبها/ زوجها الذي اختطفه الموتُ منها باكرًا ، قالت له ذات بهجة ٍ : “ حين ترنو إليَّ أغدو جميلة “، وهي التي قالت عنه : “ مضى في الطريقِ متغنًّيًا ، آخذًا عينيَّ معه “ ، وهي التي خاطبته قائلة ً : “ لا تحجبْ وجهكَ عنّي ، لا تحرمني نعمةَ الضوء “ ، وهي التي ترى أن “ الكراهية لحظةٌ ، وأبديٌّ هو الحب “ ، وهي التي تشدو بعذوبة ٍ هكذا : “ فادحٌ هو الظمأ ، وثقيلٌ هو الصعود “ ...هذه المرأة الشاعرة يسكن قلبها الأنين ، والحزن ، والفقد ، والذكريات ، والألم ، لهذا كله باتت تغني هكذا : “ قلبي العاشق يخفق كرايةٍ في الريح ، لا جراح في جسدي ، غير أنّ وجهي كان يتغطى بالدموع “ ، وتصف نفسها قائلة ً: “ أنا أشبه بالنافورة المهملة ، ميتة تسمع خريرها القديم “ .. ولأنها تلامسه فلا تلمس شيئًا تفصح إذ تبوح : “ لا دفء في كلمات البشر “ ، وتدندن في حزن ٍ طاغ ٍ : “ أحرقتِ القصائدُ شفتيَّ ، غير أني لا أملك أن أقولها “ ...وتطلق عبارتها التي دفعتني للبكاء : “ أخشى أن أتذكر أنني ما زلتُ حية “ ..وتتساءل حزينةً : “ أنجاةٌ تنتظرني ؟ أم هلاكٌ حقود ؟ “ ..وتتمنى أن تكون نهايتها هكذا : “ أريدُ أن أمضي تاركةً أيَّ شيءٍ يغلقُ الأرضَ دوني “ ...أخيرًا أقول : ألم يمسسكم جمرُ شعرها الحميم ، الصادق ، الجميل كما مسني ؟ 2 عشتُ وقتًا ممتعًا وأنا أقرأ كتاب “طردتُ اسمَكِ من بالي”للشاعر الغواتيمالي ، الهندي الأحمر ، أمبرتو أكابال ، هذه المختارات البسيطة العميقة القريبة من الروح ترجمها وقدم لها وليد السويركي ..أكابال الذي ينتمي إلى ثقافة “ الكيتشي مايا “ أدهشتني سيرته الذاتية الموجزة التي كتبها خصيصًا لهذه النسخة العربية ، فهذا الشاعر - الذي تأثر بحكاياتٍ كانت ترويها الأم في صغره كما تأثر بجده الذي علَّمَهُ لغة الطير والأساطير والموسيقى - عاش حطّابًا وعتّالًا وبائعَ علكة وسكاكر وعاملًا في مصنع ، كما عاش حياةً مليئةً بالخوف بسبب الحرب الأهلية التي اجتاحت بلاده ، لهذا نجده يقول “ بِتُّ أخافُ ظلِّي “ ؛ ولهذا كان يشعرُ بأمانٍ أكبر حين يكون الجوُّ غائمًا ، هذا المنتمي لثقافة الخوف يصفُ الخوفَ بأنه “ شيءٌ لا يُرى ولكنه يعيش معنا ، شيءٌ يقف له شعر الرأس وأنه لفرط طاقته يجعل قلوبنا ترتعد “ ، أمبرتو منذ طفولته الحافية البائسة كان شغوفًا بالقراءة ، وأول كتاب قرأه كتاب عن “ باخ “ سرقه من معلمه وهو صغير وقد عانى طويلًا في إخفائه خشية عقاب أبيه..أمبرتو أكابال يكتبُ شعرًا زاخرًا بحضور الطبيعة المدهش: الأشجار والعصافير والغيوم والشلالات والينابيع والريح والمطر والليل والظلال وغناء الغابات وشدو الطيور وبوح الأرض وأسرارها..قال “ أريد أن أكونَ بسيطًا كشجرة “ فكان له ما أراد ، إذ كتب نصوصًا خاليةً من التفلسف والغموض ، نصوصًا “ صافيةً مفتوحةَ العينين على جمال العالم “ - كما وصفها المترجم السويركي - لقد أسرني هذا الهندي الأحمر وهو يتحدث عن وداع الأم - التي تشبه أمي في وداعها - هكذا “ في كل مرة كنتُ أغادر ، كانت النظرة على وجه أمي ليلة الرحيل تبدو كصلاة “ ، أيضًا أسرني وهو يصف القراءة بأنها “ فعلُ خشوع “ ، أسرني وهو يصف نشيدًا ملونًا هكذا : “ تَهَبُ أوراقُ الأشجارِ الصوتَ لونًا / لذا نشيدُ العصافيرِ أخضر “ ، أسرني وهو يصف الظل بأنه “ ليلٌ صغيرٌ على قدمي شجرة “ ، وهو يصف “ الأوراق الميتة “ بأنها “ رسائلُ حُبٍّ تَوَّدُ الأشجارُ نسيانَها “ ، وهو يخاطبُ حبيبته قائلًا : “ اسمكِ كان ينتظرني في الركنِ / جالسًا على حجر “ ، وهو يعيدُ الأشياءَ إلى بكاراتها الأولى : “ في الكنائسِ / لا نسمعُ غيرَ صلاةِ الأشجار ، وقد صارتْ مقاعد “..جدير بالذكر إن أمبرتو أكابال أهدى هذه المختارات إلى “روح الراحل الكبير محمود درويش احتفاءً بسيطًا بذكرى شاعرٍ عرفتُ كيف أحبُّهُ دون أن ألتقيه “. 3 محمد الأرناؤوط فتح لنا نافذة كبيرة على الشعر المعاصر في “ كوسوفو “ .. هذه البقعة من الأرض التي حضرَتْ ذات مرحلة في قنوات الأخبار بوصفها اختزالاً لأنين الإنسان الملطخ بالحرب والدم جعلها الأرناؤوط تحضر بكامل تجلياتها الجميلة عبر اللغة ، عبر تبرّج القصيدة التي تذكي جذوة الروح فينا ، وأمسك قلوبنا من أطرافها الباردة كي “ تتفرج “ على النور ، والربيع ، والحب ، والعصافير ، والغيوم ، والأجنحة في “ كوسوفو “ .. الأرناؤوط نهض بمهمة التعريف : هذا الشاعر بسيم بوكشي ، اصغوا إليه وهو يدلنا على بؤسنا الداخلي هكذا : “ لدى كلٍّ منّا تجاعيد في روحه “ ، فيما كان الشاعر محمد كرفيشي يغني : “ إذا سقطتُ أنا، وتابعتَ أنتَ سيري ، ففي الحياة ربيع “ فيما يواصل غناءه العذب ممتدحًا أيامه : “ أيامي عصافيرُ رحّالةٌ تسيرُ كالغيوم “ ، أما الشاعر رحمن ديداي فيرينا حقيقة الزمن هكذا : “ في بعض الأحيان يكونُ الزمنُ مجرد قميصٍ مهتريء “ ، وينصح الإنسانَ فينا قائلًا: “ قِسِ الزمنَ بالحبِّ فقط “ ، بيد أن الشاعر علي بودريميا يرى أن : “ كل ما هو جميلٌ عن الحبِّ لم يُذْكَرْ بعد “ ، لكن الشاعر موسى رمضاني يسمعنا نشيده الجميل الأنيق الذي يشبه همسةً ذات قيظ : “ الذكرى أمُّ الألم “ ، وفي جهةٍ ما من كوسوفو كان الشاعر عمر شكريلي يدندن : “ نحن نشبهُ الطيورَ ، وحتى موتنا له أجنحةُ الطيور / نحنُ نموتُ عدّةَ مراتٍ في عدّةِ أماكن ولكن ما زلنا أحياء “ ..المختارات صادرة عن دار “ أزمنة “ في “ عمّان “ ... 4 إنه ديوان ثمين حقًّا ، تلك كانت عبارتي التي أطلقتها ابتهاجًا ، حالما فرغت من قراءة “ شاعر في نيويورك “ للفاتن الكبير غارثيا لوركا ، هذا الشاعر المثقل بحضور ٍ طاغٍ لمفردة السماء التي كانت مبثوثةً في الكثير من نصوصه التي ترجمها ترجمةً آسرة حسين مجيد ، وصدرت عن دار أزمنة في عمّان ، إن حضور “ السماء “ ـ هنا في هذا الديوان ـ له تجليات شتى ، إذ يصرخ الشاعر بحنجرةٍ كاملة واصفًا عثراته في الحياة هكذا : “ متعثرٌ بوجهي / مقتولٌ بالسماء “ ، كما لو كانت السماءُ تذكي له جمرة العذاب أو تحوك له المكيدة ، وعلى الرغم من أنه يقترح على هذه القبة العالية “ أن تهرب من صخب النوافذ “ ، نجده يبرر لها أن تبدو عارية ً طالما أنه “ لم يلتفت إليها أحد “ وطالما أنه “ لا أحد ينام في السماء “ ، ولكي يرى “ غياب كل الأشياء “ فما عليك إلا أن تمده “ بسماءٍ حزينة “..ليس هذا هو الهاجس الملح الوحيد الذي شدني إلى لوركا في ديوانه هذا ، فلقد شغلني كثيرًا شغفه الدؤوب بإعادة تفسير العالم ، فهو مثلاً يرى أن “ القمر جمجمة حصان “ ، وأن “ الهواء تفاحة مظلمة “ وأن “ الحياة ليست حلمًا “ وأن ما تراه جحيمًا ليس جحيمًا وإنما هو الشارع ، وأن “ العشاق “ غدًا يصبحون “ أحجارًا “ ، أو “ نسيمًا يتكاسلُ في الغصون “ ، وأن “ الماءَ كان حمامة ً “ ..وهكذا وعبر نصوصه يبتكر لنا أو لنفسه حياةً جديدةً لأن “ الحياة “ المعاشة هذه ـ كما يراها ـ “ محض عذاب “ ..وعلى رغم امتلائه بالعذابات ، وعلى رغم يقينه العميق بأن الموت يبحث عنه ، ظل متشبثًا بالحلم ، وبصوغ غناءٍ يليق بتلك الفتاة التي يهوى ، لأنه يرى أن “ الخائفين من الموت سيحملونه على أكتافهم “ .. فهو يعشق كما لو كان العشق هروبًا من وجه هذا الغامض المخيف الموصوف بكونه “ موتًا “ ..إنه حين يتناول تيمة العشق ترّقُ نصوصه كثيرًا وتصفو ، مثلاً : “ في فيّنا أربع مرايا يلهو عليها فمك “ ، أو “ سأرقصُ معك ِ ، انظري إلى اليواقيتِ تكسو ضفافي “ ،أو كما قال متلبسًّا بأجمل بوح تهندسه لغة العشق العذبة الصافية : “ إذا هبّت ِ الريحُ برفق ٍ / يأخذُ قلبيَ شكل فتاة “ ...أخيرًا أقول : ماذا صنعتَ بيَ الليلةَ ، يا فيديريكو غارثيا لوركا ؟ 5 هذا الكتاب الجميل القديم الضخم : “ تاريخ الشعر الصيني المعاصر “ ، أعدته الفرنسية باتريسيا غويللرماز ، و اختارت نصوصه الفاتنة ووضعت نبذة عميقة مقتصدة عن كل شاعر ، ترجمه وراجعه الرائعان نعيم الحمصي وعبدالمعين الملوحي..أخترتُ منه هنا هذه الومضات : (1) الزمن مقص مزدوج والحياة ثوب مزركش يقطعه المقص قطعة بعد قطعة . * وانغ تسين - تشو (2) الحياة شجرة حافلة بالأزهار . * وانغ تسين - تشو (3) أيتها العشبة الغضة تحت قدمي عفوك عني .. أنا أدوسك لحظة ، ويدوسني الناس إلى الأبد . * بان مو - هو (4) الحزن ليس له أبدا وجه قاس ، إنه بحيرة واسعة يغطيها القصب . * سيو يو - نو (5) الحياة سهم يطلق على البحر .. * كو مو - جو (6) هي الشمس وأنا ضوء الشمعة هي البحر الواسع الصاخب وأنا غديرها الصغير . * تشو تزو - تسينغ (7) الرحمة ، وهي تكتسي تنورة طويلة بنفسجية .. تبتسم لي أنيسة ناعمة ، وتحسر عن شعرها الأسود الظنون . * لي كين - فا (8) في جانب ، جدار صغير من التراب يخفي رجلا يعزف على عود ذي ثلاثة أوتار .. ولكن الجدار لا يحول دون الألحان . * شين يينغ - مو (9) حياتنا مثل الريف خارج نوافذنا .. * فينغ تشو (10) في هذا الشفق ظلال حلوة تذهب وتجيء مطمئنة . * ليانغ تسونغ - تي . (11) لا تتركي الحب في الوحدة والسواد.. وليدخل كأنه ضيف غير مدعو . * لي كين - فا (12) ذكريات وردية كأنها دواب متفسخة على حافة الطريق ، تنشر رائحة غريبة . * لي كين - فا (13) جناح روحي مبلل بندى الأزهار .. * لي كين - فا