حالات الشخصية والبحث عن الذات المتعددة في أدب عبد العزيز الصقعبي

أيلفت النظر في مشروع فن الكتابة الروائي والقصصي، عند الصديق الكاتب عبد العزيز الصقعبي، أنه يعتمد بشكل متميز وخاص به على الشخصية، الشخصية هي العنصر الجوهري الذي تنطلق منه موضوعات وأفكار وأسئلة وتأملات كتبه في القصة والرواية. ومع بداية القراءة لكل كتاب ، نلاحظ ضوء مركز يقترب بالتدريج من الشخصية، حتى يصل الى تعابير وجهها، ثم يدخل بنا عميقا في همومها وهواجسها وقضاياها وطريقة تفكيرها واسئلتها، ويقترب منها أكثر، ربما للتأكد أيضا من حقيقة وجودها على أرض واقع شديد الارتباك والشك، وتوجيه هذا الضوء بتركيز مقصود، يقربنا ويعرفنا على ملامحها الدقيقة ومشاعرها وحياتها وقضاياها، وهذه الإضاءة المركزة، على الحركة وطريقة الكلام ومشاعر الفرح أو الخوف، تجعل القارئ في حالة انتباه مسرحية جديدة ، إذ تخلق شعورا من الاثارة والتركيز تجذب انتباه القارئ وتترك أثرا، ثم تبدأ خيوط الموضوع تتضح مع حوار يكشف الروح المسرحية المشوقة في موضوعات هذا العالم الأدبي. كاتب أصيل عناوين كتبه تكشف تركيز على الشخصية أيضا، وهي بشكل عام، كتابة أدبية وفنية وموضوعية خاصة به، لون من الكتابة الأصيلة التي لا تشبه أحدا سواه، سواء أعجبتك أو لم تعجبك، أدب مكتوب بلغة هادئة ومركزة دون ضجيج ودون موضوعات كبيرة متكلفة فيها مبالغات اثارة ، قصص وروايات فيها شخصيات هي جوهر موضوعات أدبه، شخصيات تشعر أنهم في حالة دائمة من البحث ، سواء عن وظيفة أو هوية أو مصير أو امرأة أو مكان أو حكاية ضائعة ، أو إجابة على سؤال على طريقة من أنا وأين أنا وماذا أريد ، في مشاهد مسرحية جادة ، فيها أحيانا فكاهة ساخرة تخرج من مواقف جديتها، شخصيات إنسانية بسيطة جدا ، مثل شخصيات أبطال مسرحية في انتظار جودو لصامويل بيكت ، شخصيات اختلطت عليها الأمور والحالات، حالات متعددة الشخصيات ، وأسماء متعددة ووجوه متعددة ، تتأمل ذاتها بعمق وتبحث عن هويتها وشخصيها وأحلامها في تجارب موضوعية ونفسية مثيرة للأسئلة ، ولهذا يمكن القول إن أدب الكاتب عبد العزيز الصقعبي هو أدب شخصيات، تنطلق نحو موضوعاتها وأسئلتها وليس العكس، الشخصية في أدبه هي جوهر عمله الأدبي، وهي بشكل عام تعبر عن القيمة ومتعة البحث عن الذات. في بداية حياتي الأدبية قرأت أول كتاب للصديق عبدالعزيز، وهو كتاب قصصي ملفت بعنوان فني شاعري بديع : لا ليلك ليلي ولا أنت أنا ، أعجبني في تلك القصص أنها كانت بعيدة عن النمط التقليدي ومفتوحة الرحاب على أجناس أدبية أخرى مثل الشعر والمسرح، صدر الكتاب عن نادي الطائف الأدبي 1983 ، وهو من الكتب التي قرأتها مبكرا ، مع كتب قصصية وروائية ملفتة صدرت في تلك الفترة للكاتب عبدالعزيز مشري والكاتبة شريفة الشملان والكاتب جارالله الحميد رحمهم الله ، وذلك قبل أن أدخل في تجربة اصدار كتاب، ثم تعرفت على الصديق عبدالعزيز شخصيا في جريدة الرياض حيث كنا نعمل، وفي حوارات معه وجدت أن شخصيته الهادئة ورؤيته في قضايا الكتابة والثقافة كانت تعبر عن كاتب أصيل لديه رغبات فنية عالية في التجديد ، التقينا عدة مرات بعد قدومه من الطائف واستقراره في الرياض ، وكان قد صدر له في تلك الفترة عدة أعمال وكتب مثل مسرحية صفعة في المرآة، ورواية رائحة الفحم وكتاب القصة الحكواتي يفقد صوته ورواية طائف الأنس وغيرها من كتب القصة والرواية التي صدرت له في السنوات الأخيرة ، وتعددت اللقاءات بيننا في نادي القصة بالرياض الذي كان يشرف عليه الصديق الكاتب خالد اليوسف. رواية مقامات النساء قرأت رواية مقامات النساء قبل عدة سنوات، وهي رواية الهدوء والحب واللغة السلسة الصافية غير المفتعلة أو لنقل غير الوعرة، نص روائي متعدد الأصوات والحكايات والشخوص، ومع بداية فصل مقامات النساء الصفحة 69 دخل النص في المتعة والتشويق وقوة الأداء أدبيا، قوة الحب، الحب هو الموضوع العذب للنص، مرورا بفصول مقام نهاوند والفصل المبدع حارس النساء، ثم خجول ورومانسي، حيث بدأ حسن يتفوق على حامد في سرد حكايته، ويبدع أدبيا حين دخل في فن التخييل الذاتي، مع الانتباه لتشويق وفكاهية حكايات حامد العفوية الذي استقبل خبر وفاة والده وهو في فندق في المنامة يستعد لتقديم درس فني لإحدى طالباته، مع استمرار صديقهم أنور يكتب حكايته التي كانت على وشك مسلسل درامي متمكن، وكانت الناقدة عالية ممدوح قد كتبت عن هذه الرواية في جريدة الرياض والتقطت لحظة نقدية ملفتة حين قالت: (الصقعبي من الكتاب السعوديين الذي استنطق الولع السحيق بالنساء في هذا الكتاب، من داخل منظومة القيم التي بدأت بالتأرجح قليلاً لكي نستطيع قراءة بعض الأعمال التي تحمل مثل هذه الإشارات في الغد المتحول وللجنسين. بجانب العطش الحقيقي للمرأة، يوجد رعب هستيري من النساء أيضاً، نعثر عليه في الدنيا وبين السطور، وهذه مفارقات التربية والتحصيل العلمي والتفاوت الطبقي والثقافي). رواية بركات العالق في الخيال عندما تسمع عن شخصية لها عدة أوجه ، سوف تعرف أنها حالة سلبية عن إنسان له وجهين متناقضين مثلا ، يظهر غير ما يضمر، شخصية غريبة ومريبة وملتوية وليس لها مبدأ أو معنى أو قيمة، لكن بركات العالق في الخيال شخص عفوي مختلف، هو مشروع فنان يختلف عن تلك الشخصية النمطية المعروفة في تقاليدنا الثقافية والاجتماعية، بركات بطل رواية الصديق الكاتب والمسرحي المعروف عبد العزيز الصقعبي، هو بطل عادي وليس غريبا أو مريبا، لكنه دخل في مرحلة جديدة بالنسبة له، مرحلة ليس لها علاقة بالنوم والحلم وما شابه ذلك، دخل مرحلة فنية لها علاقة بالخيال الدرامي بعد مرحلة طويلة في تأمل الذات ، ومع مدخل الرواية الذي يوحي بمدخل مسرحي لمحاكمة: (أنا واحد من خمسة أشخاص يجلسون في غرفة انتظار لها بابان، أحدهما يفضي الى الممر المفتوح، ومنه دخلنا إلى هذه الغرفة، والباب الآخر مغلق، بالطبع هناك غرفة أخرى وهي الأهم، بابها مغلق. نحن الخمسة ننتظر أن يفتح الباب فندخل تباعا، سينادون علينا. خمسة لا يعرف بعضهم بعضا اثنان كل منهما يلبس بدلة أنيقة رسمية وثلاثة أنا منهم فصلنا الثوب الأبيض والشماغ باستثناء واحد لبس غترة بيضاء. عموما ملابسنا جميعا أنيقة ورسمية وتعطي انطباعنا جيدا لمن سيقابلنا. ويوجد مقعد سادس أمامه طاولة صغيرة أيضا، ربما هناك رجل سادس قادم، ولكن لا أعتقد أنه في الداخل عند اللجنة، لأن اللجنة لم تصل بعد، هذا ما قاله رجل استقبلني عند مدخل المبنى). تقارب رواية بركات العالق في الخيال، قضايا اجتماعية متنوعة، من طريق عدة شخصيات، منها بركات الذي يحاول كتابة سيرته الذاتية، بطريقة خيالية لا يستطيع العودة منها الى واقع مرتبك ومشتت، يعيش حياةَ عدة شخصيات، منها مديرا عاما لشّركة في الوقت الذي تقدم فيه بطلب وظيفة عادية فيها، ليجد نفسه موظف متوسط الحال ورب أسرة محافظة، وفي نفس مدير عام يعيش مع الأسرة نفسها حياة غنية. تقول الكاتبة ضحى عبد الرؤوف المل: (إن هذه الحالة النفسية التي يعيشها بركات قد تكون صعبة للغاية، لأنها تمثل صراعاً داخلياً مستمراً بين السيطرة على الذات والانعزال عنها. كما لو أن الشخص الذي يعاني من هذا التشتت الداخلي لا يستطيع تحديد موضعه في العالم ولا يعرف أين تبدأ الحقيقة وأين تنتهي الأوهام. ومع كل محاولة لفهم نفسه، يتعاظم الشعور بالعجز، وتصبح الهوية غير واضحة المعالم. فهل الرواية تدعو إلى التأمّل في الذات والبحث عن الأنا. وفي قلب هذه التجربة النفسية العميقة، يظهر تساؤل وجودي مستمر: هل يمكن للإنسان أن يعيش مع ذاته المتشظية، هل يمكنه أن يتصالح مع الهويات المتعددة التي تتكوّن داخله). مشهد الخيال المسرحي (فتح الباب ودخلت وحيدا على المدير العام بمكتبه الفاره. ماذا تريد. أمسك بالورقة التي قدمتها له بدأ يتفحصها وينظر لي هو جالس على كرسيه خلف مكتبه الوثير وأنا واقف أمامه. ورقة بيضاء، بقي ممسكا بها ينقل ناظريه بينها وبيني أنا بجسدي النحيل الواقف أمامه. الورقة لم تبق على ماهي عليه بل تغير لونها الى شيء يقترب من اللون الرمادي، وفي الطرف بالقرب من اصبعيه اللتين أمسك بهما الورقة كان هناك لون بين الصفرة والحمرة، ثم بدأ دخان يتسرب من يده والورقة لتشتعل النار بالورقة وتنتقل إلى كفه ثم ذراعه البادية تحت كم ثوبه الأبيض لتعم النار كامل جسده. لم أتحرك من مكاني ولم يصدر المدير صوتا منذ أن أمسك بالورقة، وبقيت عيناه معلقتين بجسدي الهزيل الماثل أمامه. أنا جئت لهذه الإدارة لإجراء مقابلة وجلست مع أربعة أشخاص في غرفة صغيرة مربعة الشكل، لم نتحدث ولا يعرف أحدنا الآخر، وموظف الاستقبال الذي تأكد من هوياتنا عند دخولنا لهذا المبنى اختارني أنا فقط بعد أن وزع تلك الأوراق البيضاء، لأقدمها للمدير العام الذي تحول أمامي الى لا شيء، فقط سخام أسود، احترق من دون تندلع النار في المكتب). هذا المشهد الحلمي الخيالي المسرحي الصريح من رواية بركات، يكشف لي كقارئ طبيعة الكتابة الفنية والأدبية عند الكاتب عبد العزيز ، كتابة نوعية تنطلق من الواقع في موضوعاتها، ثم تقترب في شخصياتها ومواقفها، من عالم الحلم والخيال، وأحيانا الرعب الذي يسبق المحاكمات واللجان، وهي لا تقدم هذا بمشاهد الاثارة المفتعلة، ولكنها تعالج قضايا واسئلة الشخصيات بأسلوب أدبي رفيع، وهذا ما يؤكد أن أدب الكاتب هو أدب شخصيات، تنطلق نحو موضوعاتها وأسئلتها وليس العكس، ذلك أن الشخصية في هذه الكتابة هي جوهر عمله الأدبي، وهي بشكل عام تعبر عن القيمة والأصالة ومتعة البحث عن الذات ، ليؤكد لنا بالفن أن الرواية الآن تكتب المجتمع، تكتب حياته وهمومه وتناقضاته وأسئلته وتكتب أيضا سخريته من نفسه قبل سخريته من مصادفاتها وأقدارها، والرواية الان أكثر أشكال الكتابة قدرة على التجريب والتنويع ومواجهة أسئلة فن الكتابة ومشاكل التعبير، وهي كتاب المكان والزمان والظروف والمجتمع والناس والحياة، وكل هذه العناصر هي الواقع الذي نعيشه ، ولهذا صارت الجنس الأدبي الأكثر مقروئية، حيث يجد فيها القاري روح الشعر والقصة والسينما والمسرح، ويجد فيها شخصياتها المتعددة همومة واسئلته ومتعته وذاكرته وحكاياته التي لم يكتبها بعد، كما يحاول الان ، بركات العالق في الخيال.