بين التخصص والتمكين.

في زحمة التحولات التقنية التي تعيشها القطاعات الحكومية، تبرز الحاجة إلى مراجعة بعض الاشتراطات التي قد تجاوزها الواقع العملي، لا سيما حين تصطدم الكفاءة بباب موصد لمجرد أن “التخصص” لا ينتمي إلى دائرة ضيقة رسمت بعين الاجتهاد الإداري لا بعين الحاجة.هذا المقال ليس انتقاداً للأنظمة، بل دعوة لإعادة النظر في شرط إجرائي، يحد من فرص أبناء الوطن الجامعيين في مجالات لا تتطلب ذلك التخصص الحصري، بقدر ما تتطلب التأهيل العام، والفهم، والانضباط.فهل حان الوقت لنوازن بين ما تعلمناه، وما يمكننا فعله بالفعل؟ في ظل ما تشهده المملكة من نقلة رقمية نوعية في الأنظمة والإجراءات، أصبح تسجيل العقارات عبر “السجل العقاري” الإلكتروني متاحاً لجميع المواطنين بسهولة وسلاسة، دون الحاجة إلى مؤهلات متخصصة أو خبرات قانونية. بل إن الممارسة الواقعية أثبتت أن كثيرا من ملاك العقار، ممن لا يتجاوز مؤهلهم المرحلة الثانوية يتمكنون من إتمام التسجيل العيني لعقاراتهم أو عبر أبنائهم أو من خلال مكاتب الخدمات التجارية.ورغم هذا التيسير في التنفيذ، لا تزال بعض الاشتراطات المرتبطة بالدورات التأهيلية الرسمية، مثل دورة “أساسيات التسجيل العيني للعقار” التي يشرف عليها المعهد العقاري السعودي، تقيد الالتحاق بها بحصر المؤهل الجامعي في تخصصي الشريعة أو القانون فقط، وهو شرط لا يتسق مع طبيعة العمل الفعلية ولا مع توجهات التمكين الشامل.المهام العملية للمسجل العقاري – وفق النظام – لا تتطلب تأهيلاً قانونياً دقيقاً، بل تعتمد على إدخال بيانات رسمية مأخوذة من وثائق وصكوك جاهزة، وغالباً ما تسحب تلقائياً من منصة “البورصة العقارية” عبر “نفاذ” فهل من المنطقي أن يُمنع خريج أي تخصص جامعي آخر من دخول هذه الدورة؟إن الاقتصار على الشريعة والقانون في قبول المتدربين يقصي شريحة واسعة من المؤهلين علمياً، ممن يحملون شهادات جامعية في تخصصات إدارية، أو تقنية، أو إنسانية، ويملكون من القدرات ما يفي بمتطلبات الدورة ومهامها الميدانية. كما أن كثيراً من التخصصات الجامعية تشترك في المواد النظرية مع الشريعة والقانون، أو تمنح حاملها قدرة منهجية لا تقل كفاءة.كما أن هذا القيد يفتح باب المقارنة غير الواقعية بين مهنة “المسجل العقاري” و”الموثق”، بينما الواقع مختلف تماماً، فالموثق يمنح صلاحيات إجرائية موسعة، أما المسجل العقاري فدوره توثيقي تقني لا يتجاوز إدخال البيانات وتحديث السجلات.لا اعتراض على وجود معايير تضمن جودة المخرجات، لكن المطلوب أن تكون هذه المعايير واقعية، عادلة، وتتناسب مع طبيعة المهام الفعلية للدورة ومخرجاتها. والمصلحة تقتضي فتح باب القبول لجميع المؤهلين الجامعيين، ما داموا قادرين على الالتزام بالضوابط النظامية، وفهم الإجراءات الأساسية لنظام التسجيل العيني.فالتنمية لا تصنعها الشهادات وحدها، بل تبنى على تمكين الأكفأ، لا على حصر الكفاءة في تخصصات ضيقة.