الثقافة.. ودمعُ الوزير.

تراه مسؤولا بكامل هيبته، يعتلي المنابر، ويتحدث.. فتتلقّف وسائل الإعلام شيئا من حديثه ليكون عنواناً مدويّا في الأخبار على مدى أيام؛ ويتغزّل جيلٌ كامل من الموظفين بالحديث حول مكامن فهم هذا المسؤول للعمق الاستراتيجي لهذا القرار أو ذاك؛ وينتقل هذا المهيب من مدينة إلى أخرى.. ومن دولة إلى دولة، عائدا بتغيير واختلاف ينعكس على حياة الناس ويصنع فرقاً بين الأمس والغد على أقل تقدير. ولا يتخيل أحدٌ ممن يراقبون أمثال هؤلاء الثقال أن الحديث في نهاية المطاف عن «إنسان»! وأن كل هذه الهيبة، وكل تلك الهالة التي تضيء حول هذا المسؤول.. تنكسر آخر النهار، وَجْدًا، عند أغنية عتيقة لطلال مداح، أو إعجاباً عند لوحة فنان، أو تتضاءل تقديراً لمقال كاتب، وحنيناً عند قصيدة شاعر تُبصره في لمعة عين، وصدقني لو قلت لك أنها تنكسر أيضا عند مقطع قصير لمشهد من مسلسل «درب الزلق»، وليتك ترى هذا المسؤول وهو يضحك كالصغار، حتى تغرق عيناه بالدموع! وبعد سنوات طوال من العمل قريبا من هؤلاء الكبار، تتأكد قناعتك التي تقول أن العمل الثقافي هو (الجامع المشترك) بين المسؤول والموظف البسيط، وأن للعمل الثقافي سحره العجيب وتأثيره المهول على طيف كامل من بني الإنسان، وهذا التأثير الغائب عن آلاف البشر ممن يراقبون هذا المسؤول، لا ينفي أنه جزء أصيل من تكوينه، وأنه تأثر ارتباطاً وتعلّقاً حتى تراه وقد سرق من وقت هيبته دقائق قليلة، لينكسر في أجمل الصور حنيناً أو شروداً أو ابتساماً صادقاً في وقت ملائم من يومٍ حافلٍ بالهيبة والسيادة والضياء. سيتبين لك مع الوقت أن الذكرى -إن اقترنت بالثقافة- تجسّدت ذاك الحنين الجميل، وكل ما يتربط بهذا النمط من الذكرى لا يتعدى مناطق الثقافة، فمحتوى رواية قرأناها في شبابنا (ثقافة)، وأصوات الحي الذي ولدنا فيه، وكذا رائحة القهوة التي تحلقنا حولها نتجادل حول أغنية ذاع صيتها في ذاك الزمان، وحفظنا كلماتها وألحانها لكثرة ما أدارها الرفاق في مسجل السيارة التي تغص بنا وعددنا الذي يفوق طاقة السيارة الاستيعابية، لننصت بإمعان أثناء «فرَّة» ما بعد الظهيرة بنهاية يوم دراسي مُمل.. في صيفٍ لاهب. وبالمناسبة، فإن النماذج التي استحضرتها للكبار في بداية هذا المقال لا تنطبق على الجميع، فمن تحدثت عنهم هنا يشكلون نماذج إنسانية جميلة، لم تتجمّد إنسانيتهم بفعل المناصب واستمروا في اعتزازهم بانتمائهم لبني البشر والتمسك باحترامهم للناس وتقدير كل خصلة فيهم من تلك الخصال التي تميزهم عن سواهم، ومهما علت مناصبهم أو توسعت صلاحياتهم فإن معدنهم الثمين لا يتبدل، لهذا ترى معهم نتيجة جميلة تتأوّل بوضوح كلما وقفوا عند مساحة الذكرى المرتبطة بالتكوين الثقافي في أول العمر، وقبل أن تحيط بهم أثقل الارتباطات وأنصع الهالات. بعد كل هذا، لا تشغل نفسك ولا تترك فرصة ليضُجّ عقلك بالسؤال: لماذا يجب أن يتحول المُنتَج الثقافي إلى ذكرى؟ فالتأثير بطبيعته صانع ذكريات لا يشق له غبار، والعمل الثقافي مؤثر قوي، سيّما إن انطوى نتاجاً تحت مظلة الإبداع، رسما وموسيقى وشعراً وكتابة، هنا يتحقق الأثر ويبدأ نحتُ الذكرى التي تبقى إلى الأبد، فيستعيدها الإنسان عندما يحتاجها، أو تختار الذكرى أن تحضر بكامل سطوتها في الوقت المناسب.