الوحل

الوحل ـ سلمك الله ورعاك، وأنعم بالسرور على من يلقاك ـ ليس نوعا واحدا، إنه أنواع، منها الحسي والمعنوي، وما بين بين. الحسي والمعنوي مفهومان، وتكمن العقدة فيما بين بين، كيف نصل إلى فهمه؟ أو كيف نخرجه من مكمنه؟ ومن ثم إلى فهمه؟ هنا انقسم العلماء الفيزيائيون انقساما طوليا وعرضيا: فقال أوسعهم صدرا، وأغزرهم علما وأكبرهم سنا: الوحل الما بين بين هي مرحلة الشك، فهي مرحلة تجعل العقل متأرجحا لا مرفأ له. وقال أصغرهم سنا وأعمقهم فهما لما بعد الحداثة، الوحل الما بين بين هو نتوء في الضوء، لم يكتشف إلا في منتصف الليلة البارحة، اكتشفه العالم صموئيل الأفغاني حين كان العلماء الآخرون ينامون ملء أسرتهم، فلم يشعروا بهذا الاكتشاف العبقري. أما أوسطهم سنا، أي الما بين بين، فقال: مالنا والضوء ناتئا كان أو مستويا، دعونا نخرج من فيزياء العقل إلى فيزياء الوجدان، أي الشعر، ثم أنشد: (طرقتك زائرة فحي خيالها بيضاء تخلط بالجمال دلالها قادت فؤادك فاستقاد ومثلها قاد القلوب إلى الصبا فأمالها) فاشتعلت أكف الجميع بالتصفيق ماعدا واحدا كان يسمى حفيد الجن لبراعته في فهم الشعر، فقال له أحدهم: لم لا تصفق؟ ألم يحرك ذوقك الفني ما قاله مروان بن أبي حفصة؟ فقال ساخرا: هذا الشاعر وصف صورة في ذهنه، لذلك قال (فحي خيالها) وأنا رجل واقعي، لا أعجب إلا بما أراه عيانا بيانا، متمثلا بقول ابن أبي ربيعة: (إني امرؤ مولع بالحسن أتبعه لا حظ لي فيه إلا لذة النظر) فقال أحدهم، وهو يضحك: إني أحسدك على هذه العفة العصماء، والنزاهة الشماء، و يا ليت أن جميع الشعراء مثلك، ولكن ألا ترى أنك مجرد مقلد فاشل لابن ربيعة؛ لأنك صدّقت ما قاله، ولم تفكر كيف كان فعله؟ فما قاله مجرد ادعاء. والادعاء هو السيف الخشبي في يد الشعراء، فهم يدعون بأنهم يسهرون الليل وأنهم (يشربون الماء صفوا) وأنهم الأعلون ثقافة، وأنهم يضحكون على من يمدحونهم وغير ذلك من الادعاءات العنترية. فهل تصدّق أنت ما قاله عنترة؟: (ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم) إن صدقت هذا فاذهب فورا إلى عيادة نفسية.