الملك عبدالعزيز و رمانة الميزان بين الأميركيين و الإنجليز.

عندما يقال عن رجلٍ إنه “صانع التوازنات” أو “رمانة الميزان”، فذلك يعني أنه استطاع الوقوف بثبات في قلب العاصفة، و استطاع أن يحفظ مصالحه و مبادئه في زمانٍ لم يكن يعترف إلا بالقوة و الدهاء. من بين قادة القرن العشرين، يبرز اسم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ـ طيب الله ثراه ـ كأحد أبرع من أتقن فن التوازن في السياسة الدولية، خاصة بين قوتين عظميين في ذلك الوقت: الإمبراطورية البريطانية الممتدة، و الولايات المتحدة الأميركية التي بدأت تبسط نفوذها في الشرق الأوسط. المملكة الناشئة بين مطرقة الأمريكان و سندان الإنجليز حين بسط الملك عبدالعزيز سلطانه على الجزيرة العربية، كانت بريطانيا هي القوة المهيمنة في المنطقة، تتحكم في الخليج و العراق و مصر و اليمن و فلسطين، و تنسج علاقاتها مع الزعامات الإقليمية بخيوط دقيقة من الحماية و التهديد و التقسيم ، و في الوقت نفسه كانت أميركا تراقب المشهد من بعيد، لكنها بدأت تتحسس طريقها نحو الشرق الأوسط عبر بوابة النفط. الملك عبدالعزيز لم يكن غافلاً عن صراع القوى هذا، بل كان شديد الوعي بأن أيّ خطأ في الموازنة بين الإنجليز و الأميركان قد يُدخل بلاده في لعبة المحاور أو يجعلها تابعاً لقوة ضد أخرى، فيضيع الاستقلال الوليد قبل أن يتجذر. لذا انتهج سياسة قائمة على الحفاظ على السيادة الكاملة، و عدم الارتهان لأي طرف، مع الانفتاح على الجميع بما يخدم مصلحة الوطن. براعة الاختيار .. و الوقت المناسب في عام 1933، وقّع الملك عبدالعزيز اتفاقية التنقيب عن النفط مع شركة “ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا” (التي أصبحت لاحقًا أرامكو)، مانحاً الأميركيين أول موطئ قدم اقتصادي في الجزيرة العربية. هذا القرار لم يكن مجرد صفقة تجارية، بل كان ضربة دبلوماسية ذكية في وجه النفوذ البريطاني، إذ أوجد توازناً دقيقاً يحول دون احتكار بريطانيا للنفوذ في المنطقة. و رغم أن الإنجليز رأوا في هذه الخطوة تحدياً واضحاً ، إلا أن الملك عبدالعزيز لم يغلق الباب أمامهم، بل ظل ينسج علاقاته معهم بلغة الاحترام و المصالح المتبادلة. هنا تبرز “رمانة الميزان” بجلاء .. علاقات متوازنة دون عداء و لا تبعية، تُكسب المملكة احترام الطرفين و تجعلها لاعباً لا تابعاً. الملك عبدالعزيز: قائد برؤية جيوسياسية مبكرة ما يُحسب للملك عبدالعزيز أنه لم يتعامل مع القوى الكبرى كأدوات آنية، بل أدرك من وقتٍ مبكر أن السعودية ستكون في قلب المعادلات الدولية، و أن النفط سيجعل بلاده محطَّ أطماع، لا مجرّد بقعة منسية في صحراء. و لذلك، اختار أن يُمسك بزمام القرار، و ألا يجعل من بلاده ميداناً لتصفية الحسابات بين “واشنطن” و “لندن”. و قد تميزت دبلوماسيته بالحكمة و البصيرة، فبينما كانت بريطانيا تسعى لفرض وصايات سياسية على زعماء المنطقة، كان الملك عبدالعزيز يشترط أن تكون كل الاتفاقيات التي تُبرم معه قائمة على مبدأ الندية، و أن لا يُملى عليه شيء لا يخدم المصلحة الوطنية. لم يكن يغريه الوهج الاستعماري البريطاني، و لا الوعود الأميركية، بل كان يزن الأمور بميزان من العقل ، مدركاً أن سيادة الدول تُبنى بالمواقف الصلبة لا بالأحلاف الزائفة. اللقاء التاريخي مع روزفلت تجسدت قمة التوازن السياسي في اللقاء الشهير بين الملك عبدالعزيز و الرئيس الأميركي فرانكلن روزفلت عام 1945 على متن البارجة “كوينسي”، بعد مؤتمر يالطا. لم يكن هذا اللقاء بروتوكولياً فقط، بل كان إعلاناً عن دخول السعودية رسمياً في معادلة القوى العظمى، كشريك و ليس كدولة هامشية. هذا اللقاء حوّل السعودية من مجرد “رقم جغرافي” إلى لاعب سياسي و نفطي رئيسي، و هو ما أثبتته العقود التالية. لم يكن الملك عبدالعزيز يملك جيوشاً جرارة و لا ترسانة أسلحة متقدمة، لكنه امتلك ما هو أعظم: الإرادة، و البصيرة، وحكمة القائد المؤسس. لقد أدرك أن المملكة لن تُبنى بالقوة المجردة، بل بتوازن القوة، و الاستقلال السياسي، و احتراف فن الممكن. ولذلك فإن تجربة الملك عبدالعزيز في التوازن بين الأمريكان و الإنجليز ليست مجرد فصل في كتاب التاريخ، بل هي درس خالد في السيادة السياسية، و مثال يُدرّس في كيفية انتزاع الاحترام من القوى العظمى دون أن ترفع صوتك أو تخفض رأسك.