من مطار الملك خالد الى عيادة الكتب..

حكاية الرجل الذي تزوج مكتبته!

كذئب يحمل وحشة من الناس، ويجنح إلى فراء الخراف و الماعز، بيد أن خرافه وماعزه كانت الكتب.. الكتب فقط هي مطلبه. رائحة أوراقها تنبعث كدماء الصيد الفوّارة الساخنة وتجليدها النظيف المصفوف بأيدي المهرة البررة بالكتب كجلد الطرائد العزيزة التي ما إن تقتنص حتى تحنط وتصان. كان حماه قاهرة المعز وحرمه سور الأزبكية هناك يخاتل باعة الكتب حتى ينال مبتغاه. هكذا كنت أسمع عنه، وأن حياته مجلوة بماء المطهر لشدة حرصه على النظافة وأما الترتيب فلا تسأل عن ذلك إذ تملي عليه الخلوة اليومية لهذه الأرواح السابحة في ذرات الكون بنومها المصطنع على الأرفف، الكثير من هذه الشمائل.. بلغت بي نهمة الفضول وأنا الكتبي العاشق والمريد الولهان أن رفعت سماعة الهاتف في مساء قاهري قائظ فحدثت أحد أصدقائي في مصر فلم أفرغ من ديباجة السؤال عن الحال والأحوال حتى كنا نضع اللمسات الأخيرة لاقتحام عزلة ذلك الصوفي في مغارة الكتب أو الشيخ الستيني أو الدكتور كما يسميه جيران شقته الصغيرة والذي نذر وقته لخدمة الباحثين كما قيل لي. غادرت مطار الملك خالد الدولي بالرياض، مشتت الذهن، متوجها إلى مطار القاهرة، لأني جابهت نفسي بالأسئلة، وهذا هو ديدني في كد ذهني: لماذا أحرص على لقائه؟! وبعد اللقاء، لم الحرص على متابعة مشوار الصداقة؟! هل لألج بيته؟!، المفردة الأخيرة لمن لا يعرف شغف الكتب. أما أنا فقد كان همي من وراء البيت التلصص على مكتبته واشباع تلك النهمة المتطلبة المربوطة بحجر أسفل قعر بئري البعيد. وضعت بعض الدولارات طي كتاب قديم يلفه تجليد فاخر مذهب ووقفت على طريق هذا الحوت الصعب الذي "بخصت" مكمن ضعفه فكان في طرف "سنارتي" هذا الكتاب الذي أتأبطه الآن. سلمت عليه، فرد سلامي فاترا ثم انتبه وتبسط معي في الحديث قليلا حتى سألني عن الكتاب الذي معي ناولته إياه قلبه بين يديه كأم رؤوم، ليسألني وهو يعيد الطُعم إلي. لم تضع هذه الدولارات هنا؟! "لأني أريد بقاءها كثوب المكوجي" هكذا أجبته، تبسم الرجل وأعجب بي حين وافقت شيئا من خلائقه. نجحت الخطة ومضت العلاقة مطردة حتى جاء اليوم الذي أصعد فيه سلالم عمارة قديمة فيتهامس البعض: -غريب، أكيد عاوز الدكتور؟! قلت نعم طرقت الباب ففتح كما تفتح مغارة علي بابا لمن يملك كلمت السر فقط ليقتحم عالم أولئك السحرة والمسحورين!! أحاول أن أعيد صف مفردة البيت لأجعلها "عيادة" نعم هي عيادة كتب، لسطوة البياض ورائحة النظافة كل هذا تلاقح مع الضوء القاهري الساقط أسفل النوافذ فتذكرت لوحات "خواكين سورويا" أو كما يسميه عشاق ذلك الفن "سيد الضوء".. لن أطيل في عبثية الذاكرة وربطها الأشياء ببعضها بسبب أو بلا سبب، لن أغضبها لتغادر وتتركني في مواجهة الزهايمر!! ولست أخشى الزهايمر إلا حين يضرب خريطة مكتبتي الشخصية. عودا لعيادة الكتب التي لم تكن سوى شقة صغيرة لا تبلغ المئة متر، غاية في النظافة والترتيب وفيما عدا ذلك فقد كانت ترزح تحت احتلال الكتب غير الغاشم، فتخيل ماشئت من العبق الجميل والأنسام العذبة، عدا نفسا واحدا خلت منه تلك الشقة، إنه نفس الأنثى حين استعاظ عنها صاحبي بالكتب. نعم لقد طلق الحياة وتزوج الكتب! قبل أنهي المقال تذكرت الباعث الأول لكتابته، إنه كتاب "الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط الثانية" الذي أستله من رف مكتبتي فأذكر تفاصيل اقتناءه من شقة المرحوم ولن أنسى ذلك اليوم وأحاديثنا عن المجلات العلمية والأدبية وما تحويه من ذخائر وأهمية كشافاتها وفهارسها للباحثين والمنقبين، لم أنس ذلك رغم تقادم العهد. لأن كتاب القرطبي يختزل ذلك كله كقرص ممغنط.