البودكاست يبعث الحياة في جسد الإعلام التقليدي.

عندما ظهر التلفاز، سارع البعض إلى إعلان الحداد على سقوط الإذاعة ، وحين اجتاحت وسائل التواصل الرقمي حياتنا، قيل إنها سحبت البساط من تحت أقدام الإعلام التقليدي. لكن المتأمّل ببصيرة يدرك أن شيئًا من هذا لم يحدث. فالإذاعة، رغم زحف الصورة، بقيت شامخةً بصوتها، لأنها تخاطب خيال الإنسان لا بصره. كم من مستمع تخيّل المذيع، بجمال صوته، إنسانًا وسيمًا آسِرًا؟ وتخيّل الحوار الدائر بين المذيعين فيبتسم ثغره. ذلك الخيال، الذي لا تقيّده عدسة ولا شاشة، هو ذاته ما يجعل الرواية الورقية، رغم كل الصخب، لا تموت. فقراءة الرواية متعة لا تضاهيها أضواء الشاشة، ولا جمال الممثلة، ولا براعة المخرج. الخيال هو لغة الأرواح… لا تفنى إلا بفنائها. ومادام في القلب وجدانٌ حيّ، ستظل الرواية الورقية نغمةً مريحة، لا يملّها الزمان. وما وسائل الإعلام الحديثة إلا امتدادٌ متطوّر للإعلام التقليدي. خذ مثلًا: “البودكاست”، هو في جوهره إذاعة… ولكن بوجه عصري. وإذا كان هذا الانتشار الواسع للبودكاست يُثبت شيئًا، فهو أن الإذاعة لم تمت، بل عادت بحلّة جديدة. ذلك لأن هناك من لا يزال يفضّل السماع على المشاهدة، والخيال على الواقع. نعم، سهولة إنتاج البودكاست أغرت الكثيرين: برنامج تسجيل، جهاز حاسوب، سماعة، وميكروفون… هذا كل ما تحتاجه. لكن في هذه السهولة بدأ الصراع بين الجيّد والرديء. وأيضًا، فإن ظهور البودكاست المصوّر أفقدهُ أجمل مزايا الإذاعة: فسحة الخيال. وبدلًا من البحث عن عنصر التشويق، أصبح اللغط والجدليات التي لا طائل منها هي البديل. وهنا برز تساؤل جوهري: من يحمي المتلقّي من هذا الغثاء؟ وهنا نرفع القبعة احترامًا، حين نرى دور هيئة الإعلام المرئي والمسموع و وزارة الاعلام في المتابعة والتقنين، حمايةً للذوق العام، ودعمًا للجودة والإبداع . ورغم كل ما سبق، يبقى البودكاست فرصةً عظيمة – لا لعزل الإعلام التقليدي، بل لإحيائه من جديد. فما المانع أن: • نُنتج برامج إذاعية بصيغة بودكاست؟ • نَبث حلقات البودكاست الناجحة عبر أثير الإذاعة؟ • نُروّج من خلالها لأعمال وطنية أو روايات جديدة؟ • نُعزّز بها القيم الوطنية، بسرد القصص وسير الرموز الدينية والوطنية؟ • نطرح بها القضايا الخلافية، لا جدلًا، بل تحليلًا ونقدًا موضوعيًّا؟ والساحة السعودية تعجّ بالمبدعين من المذيعين والمذيعات في مجال الإذاعة، وهم يستحقون كل دعم وتقدير, وإعطاؤهم الفرصة للتجديد والتغيير والانطلاق في سماء الإبداع, فالمذيع الذي تلقّى دراسة أكاديمية في هذا المجال ويملك خبره فيه, هو الأقدر على تقديم وإعداد برنامج بودكاست ناجح. وهذا ما يدفعنا للقول إن البودكاست قناة إعلامية حديثة، يجب أن تُستثمر، لا أن تُترك ساحةً للعبث. لكن العبء الأكبر ليس على المنصات وحدها، بل على المتلقّي نفسه. فهو القادر على غربلة الجيّد من الرديء… لا بكثرة الردود، بل بتجاهل التافه، وهجر الجدل العقيم. كما قيل: “أميتوا الباطل بالسكوت عنه.” ولن نجد أصدق من قول الشاعر: إذا نطق السفيه فلا تجبه فخيرٌ من إجابته السكوتُ فإن كلَّمته فرّجت عنه وإن خلَّيتَه كمداً يموتُ.