الوعي وفلسفة القلق.

يصعب علينا تخيّل حياة بشرية خالية تمامًا من القلق، كما يصعب أن نتصور ذاتًا إنسانية لا تُنازعها شكوكها العميقة حول المعنى والمصير. القلق، في جوهره، ليس عارضًا طارئًا يمكن تجاوزه بتمارين الاسترخاء أو أقراصٍ صيدلانية، بل هو بنية داخلية، تلازم الوعي كلما أُجبر على مواجهة هشاشته. فالإنسان، ومنذ أن وُجد، يحمل في داخله بذرة التمزق بين الرغبة في السيطرة، والعجز عن استيعاب اللانهائي من حوله. نحن كائنات تدرك، وهذا الإدراك – بدل أن يحررنا – كثيرًا ما يثقلنا. القلق هو الثمن الذي ندفعه مقابل وعينا. ليس هو خوفًا من شيء بعينه، بل شعورٌ معلّق في فضاء الاحتمال، لا يمسكه يقين ولا ينجو منه عقل. كما يكتب كيركغارد: «القلق هو الدوخة التي تصيب الحرية»، إذ لا يأتي من الخارج، بل يتفجر من أعماق الحرية ذاتها. الإنسان حر، لكنه لا يعرف ما يفعل بهذه الحرية، فيتحوّل القلق إلى مرآة يرى فيها هشاشته، ويبحث من خلالها عن ملامح خلاصه. القلق لا يُبدَّد بالطمأنينة المصطنعة، بل بالمواجهة، ليس الغرض أن نتخلص منه، بل أن نفهمه، ونستخدمه كأداة لفهم الذات والعالم. فالمجتمعات المعاصرة، في سعيها المحموم نحو الأمن والرفاه، حاولت دفن القلق تحت ركام الاستهلاك والترفيه، لكنها فقط زادت من تغوّله. لقد تحوّل إلى ظِلّ دائم، إلى همس داخلي لا يهدأ. القلق لا ينشأ من المجهول وحده، بل أحيانًا من المعرفة ذاتها؛ فكلما ازداد وعي الإنسان باتساع الكون، وبضآلة وجوده داخله، تَصاعد شعوره بالتيه. نحن نُولد في عالم لم نختره، ونُلقى في واقع لا يُفسر نفسه، ثم نُطالَب بأن نعيش وكأن كل شيء مفهوم وواضح. هذه المفارقة وحدها كافية لإحداث اضطراب داخلي لا يُطاق. القلق ليس عيبًا في النفس، بل علامة على صحوها، وحدهم الذين توقفت أسئلتهم عن الإلحاح، هم أولئك الذين ابتلعهم الروتين حتى النخاع. أما من بقي حيّ الأسئلة، متوتر الحضور، فيحمل داخله القلق كصوت لا ينام، وصدى لا ينطفئ. في حياة الإنسان الحديثة، تحوّل القلق إلى ظاهرة عامة، لكنه – وللمفارقة – أُفرغ من عمقه الفلسفي، وصار يُختزل في تشخيصات طبية ومصطلحات نفسية، تعزله عن جذوره الوجودية. هذا النوع من القلق ليس مرضًا فرديًا، بل سؤال جماعي معلّق: كيف يمكن للإنسان أن يحيا دون يقين نهائي، ودون ضمانات مطلقة؟ نبحث عن الأمان في العمل، في العلاقات، في الروتين، في المال... نعلّق أنفسنا بأشياء تبدو ثابتة، لكنها في جوهرها زائلة. وحين تهتز هذه الأعمدة الواهية، يعود القلق ليصرخ فينا: لا شيء يدوم. لا شيء يضمن. فهل نملك الشجاعة لننظر في عينيه ونواصل الطريق؟ ربما يكون التحدي الأكبر الذي نواجهه هو: كيف نعيش مع قلقنا دون أن نُبتلع فيه؟ كيف نجعل منه بوابة نحو الوعي، لا بوابة للهروب أو الفوضى؟ الإجابة لا تكمن في الهروب من الأسئلة، بل في الإصغاء لها. فحين نُصغي جيدًا، نكتشف أن القلق، كما الخوف، لا يأتي ليُفسد الحياة، بل ليكشف عنها. إن القدرة على العيش رغم القلق، هي أصدق أشكال الشجاعة. هي القوة التي لا تُعلن عن نفسها بالصراخ أو الاستعراض، بل بالصبر على المجهول، وبالقدرة على أن نُكمل السير حتى حين لا نعرف إلى أين.