
في قلب صحراء العُلا الشاهقة، حيث تمتزج كثبان الرمال بسكون الأزمنة، ينتصب “القصر الفريد” كأيقونة نبطية خالدة، منحوتة من كتلة صخرية واحدة، تشهد على عبقرية الإنسان حين حوّل الحجر إلى قصيدة. هنا، في أرض الحِجر، يتجلّى فن النحت العربي القديم في أبهى صوره، وتتنفس الجبال صمتها المهيب، كأنها تحفظ في طيّاتها سرّ رجلٍ أراد الخلود. ذلك الرجل هو حيّان بن كوزا، أحد وجهاء الأنباط وأعيانهم، الذي خُصِّص له هذا الضريح المهيب، كمثوى أخير يُعانق الخلود من بوابة الجمال. وما إن تطأ قدماك المكان، حتى تتسلل إليك رهبة التاريخ، وتخطفك العزلة الفاتنة التي تحيط بالقصر القائم وحده، فريدًا في هيئته، متفرّدًا في طرازه، كما لو أن الزمان قد انتقاه ليكون مرآةً لحضارةٍ نطقت بالصخر، ووشمت ذاكرتها في قلب الأرض. واجهته الباذخة، التي تتسلل منها أشعة الشمس وتتوزع فوق ملامحها النبطية، مزدانة بنقوش متقنة وتيجان ذات طابع روماني، تقف كصفحة معمارية مفتوحة على عصور تداخلت فيها الحضارات وتزاوج فيها المحلي بالعالمي. استعار الأنباط من الهيلينيين والرومان والعرب عناصر الفن، ونسجوا منها أسلوبًا يخصهم وحدهم، مزيجًا من الصرامة الجبلية والرقة الزخرفية. لكن المدهش أن هذا الضريح، رغم فخامته، لم يُستكمل حتى النهاية؛ فالجزء السفلي منه يبدو أكثر بساطة وتجريدًا، وكأن يد الفن توقفت فجأة، تاركة سؤالًا يتردد في أروقة الزمن: هل تُوفي صاحبه قبل إتمامه؟ أم حالت تقلبات الطبيعة أو ظروف السياسة دون إنجازه؟ في هذا التوقف الغامض يكمن جمال من نوع آخر… جمال ما لم يُكتمل، وما بقي شاهدًا على قصة مبتورة لم يُكتب لها ختام. القصر الفريد يُعدّ أحد أبرز المعالم في مدينة الحِجر، أو “مدائن صالح”، التي كانت ثاني أهم مدن مملكة الأنباط بعد البتراء. وتزخر هذه المدينة بأكثر من مئة مقبرة نبطية نُحتت في صخور المنطقة، إلا أن هذا القصر ينفرد بموقعه المنعزل، وأبعاده الهندسية المتقنة، واسمه الذي عكس خصوصيته وتفرّده. وقد زار عدد من الرحالة والمستشرقين الموقع في القرن التاسع عشر، وكتبوا عنه بإعجاب كبير، منهم الرحّالة الإنجليزي تشارلز داوتي، بينما رسمته جيرترود بيل بعدستها، كأنها تحاول أن تلتقط روح الصمت في قلب الصخر. ومع ذلك، لم يبدأ الاهتمام الجاد به فعليًا إلا حين التفتت المملكة لإرثها الحضاري، وأطلقت مشاريع وطنية لحماية الآثار، في سياق رؤية ثقافية متقدمة. وفي عام 2008، أُدرجت منطقة الحِجر ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، لتصبح أول موقع سعودي يحظى بهذا الاعتراف الدولي. ومنذ ذلك الحين، لم يعد القصر الفريد حجرًا صامتًا وسط الصحراء، بل رمزًا ناطقًا بثقل الذاكرة، ومقصدًا للعلماء والزائرين، ومنارة حضارية تشع من قلب المملكة. وفي ظل رؤية المملكة 2030، تحوّلت العُلا إلى مركز عالمي للتراث والثقافة، بفضل جهود الهيئة الملكية لمحافظة العُلا، التي تأسست عام 2017 لتكون ركيزة استراتيجية في إعادة إحياء هذه المنطقة العريقة. أعادت الهيئة الحياة إلى أطلال التاريخ، وبثّت فيها روحًا جديدة تُعيد للأذهان مجد حضارات كانت تمرّ من هنا، وتكتب سطورها في قلب الصحراء. لم تقتصر هذه الجهود على الترميم فحسب، بل شملت تطوير البنية التحتية الثقافية، وتنظيم مهرجانات عالمية، ورحلات تعليمية وسياحية تروي قصة المكان بأبعاده كافة. كما أُطلقت مبادرات أكاديمية لتأهيل الكوادر الوطنية في مجالات الآثار والحفظ والتوثيق، ما عزّز من حضور المملكة على خارطة الثقافة العالمية، وأكّد أن استثمار التراث ليس ترفًا، بل ركيزة من ركائز المستقبل. القصر الفريد، الذي كان مقبرة نُحتت في عزلة الصحراء، بات اليوم يُجسّد نهجًا سعوديًا جديدًا في فهم التاريخ واحتضانه وتقديمه للعالم بلغة تحفظ الأصالة، وتسعى للإحياء لا الاكتفاء بالحفظ. في كل زاوية من زواياه تهمس الجدران بما لم يُكتب، وتؤكد أن العناية بالإرث ليست صيانةً للحجر، بل إحياء لهوية وطنية حيّة. وفي صمته المهيب، يروي القصر حكاية الأنباط، الذين حوّلوا التجارة إلى عمران، والفن إلى هوية، والموت إلى بوابة للخلود. وها هو اليوم، بواجهته التي تأبى الانهيار، يطلّ من بين الصخور ليقول للعالم: إن في الجزيرة العربية فنًا ضاربًا في العمق، وإن حضارتها لم تبدأ من العدم، بل من قمم الإبداع. إن الوقوف أمام القصر الفريد يشبه الوقوف أمام لوحة حية تتنفس مع الشمس وتتكلم بلغة الجمال. تتغير ألوانه مع ساعات النهار: ورديٌّ عند الغروب، ذهبيٌّ في الظهيرة، وظليلٌ عند الفجر، كأن الصخر نفسه يستجيب للضوء ويُعيد تشكيل نفسه كل يوم. وفي دقّته المعمارية الصارمة، يهمس الفن بأن ما يُنقش في الصخر لا يُمحى، وأن الأثر حين يكون جَمالًا، فإنه يبقى أطول من صاحبه. القصر الفريد ليس مجرد معلمٍ أثري، بل مرآة لروح حضارية ما زالت تنبض في المكان. وهكذا، يبقى شاهدًا على زمن لم تروه الكتب كلها، وزينةً في جبين العُلا، درة المملكة، ورسالة من الصخر إلى الإنسان: أن الحجارة تنطق حين تلمسها الأيدي بحب، وأن الماضي حين يُصاغ بالجمال… يتحوّل إلى حياة لا تموت