الذكاء الاصطناعي في خدمة التاريخ الشفوي.

حين تجلس مع أحد كبار السن في مناسبة ما، يبدأ يروي لك قصصًا من حياته الماضية، فتكتشف بين سطور حديثه وقائع وتفاصيل لا تجدها في الكتب ولا بين دفات المراجع الرسمية. هذه الذكريات الشفوية تنقل لك صورة حيّة لعصر مضى، بكل ما فيه من حكايات وتجارب ومواقف قد لا تُذكر في الروايات الرسمية. من هنا تنبع أهمية التاريخ الشفوي بوصفه وسيلة توثيق إنسانية تحفظ الذاكرة الفردية لخدمة التاريخ الجماعي. ولأهمية هذا النهج، سعت جهات أكاديمية حول العالم إلى تأسيس أرشيفات تُعنى بجمع هذا النوع من التاريخ. فقد أطلقت جامعة كولومبيا في نيويورك أول مشروع أكاديمي للتاريخ الشفوي عام 1948 بقيادة المؤرخ ألن نيفينز، والذي مثّل نقطة انطلاق منهجية حديثة في هذا المجال. وفي المملكة المتحدة، تبرز جمعية التاريخ الشفوي بدورها في تطوير الممارسات المهنية والأخلاقية للتاريخ الشفهي، إلى جانب مناقشة المستجدات التقنية مثل الذكاء الاصطناعي. أما الجمعية الأمريكية للتاريخ الشفوي، فتقدم دعمًا معرفيًا ومهنيًا واسعًا للمؤرخين والممارسين. أما في المملكة العربية السعودية، فقد أُنشئ مركز التاريخ الشفوي في دارة الملك عبدالعزيز عام 1997 لتوثيق روايات كبار السن وذوي الخبرة التاريخية، وسبقتها مكتبة الملك فهد الوطنية في عام 1994 بتسجيل مقابلات مرئية ومسموعة مع الأدباء والمثقفين والشخصيات الوطنية، مما يعكس وعيًا مبكرًا بأهمية حفظ الروايات التاريخية من أفواه من عايشوا الأحداث. وقد عرّفت الجمعية الأمريكية للتاريخ الشفوي هذا المجال بأنه «طريقة لجمع وحفظ المعلومات التاريخية من خلال مقابلات مسجلة مع أشخاص شاركوا في أحداث أو أنماط حياة سابقة»، وهو تعريف يمنح هذا اللون من التاريخ صفة منهجية ومصداقية علمية. إلا أن قيمة هذه المقابلات لا تكمن فقط في تسجيلها، بل في طريقة تحليلها وتنظيمها وحفظها للأجيال القادمة. وهنا يظهر تساؤلاً مهماً: كيف يمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تدوين وتحليل وفهرسة هذه الحكايات الشفهية؟ وهل تستطيع التكنولوجيا قراءة المشاعر والصمت والانفعال لهذه التسجيلات كما يفعل الإنسان؟ بدأت مناقشة هذه الأسئلة فعليًا في ندوة افتراضية عقدتها الجمعية الأمريكية في يوليو 2024، ناقشت فيها الأبعاد التقنية والأخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في هذا المجال. وقد تضمنت الندوة عشر جلسات شارك فيها باحثون من عدة دول، ركّزوا خلالها على ضرورة تحقيق توازن بين الاستفادة من التقنيات الحديثة والحفاظ على أصالة المقابلة. وفي السياق ذاته، نشرت جمعية التاريخ الشفوي البريطانية ورقة بحثية أعدّها روب بيركس بعنوان «كم هو ذكي هذا الذكاء الاصطناعي؟.. التاريخ الشفوي والذكاء الاصطناعي»، استعرض فيها أدوات عدة مثل: Otter و Descript و MacWhispe وIntelion ، التي تتيح تحويل الصوت إلى نص بدقة مقبولة وتحليلًا منهجيًا للنصوص الصوتية. وقد أثبتت بعض هذه الأدوات، مثلOtter ، قدرة لافتة في التعرف على المتحدثين وتنظيم الحوار وإضافة عناوين فرعية تلقائيًا، وهي ميزات جربها العديد من الباحثين بشكل مباشر. لكن الدراسة نفسها عبّرت عن حذر واضح تجاه الاعتماد الكامل على هذه الأدوات، مشيرة إلى أنها لا تزال تفتقر إلى فهم السياقات الإنسانية الدقيقة، مثل التفاعل العاطفي أو النبرة الساخرة أو لحظات الصمت. وهو ما يجعلها أدوات مساعدة لا بدائل عن الدور البشري، خاصةً في المراجعة والتحليل. على مستوى الوطن العربي، ما زالت تجربة استخدام الذكاء الاصطناعي في التاريخ الشفوي محدودة وغالبًا ما تقتصر على مبادرات فردية أو مشاريع أكاديمية ضيقة دون استراتيجية مؤسساتية واضحة. بعض الباحثين بدأوا يعتمدون أدوات نسخ صوتي مثل Otter وTrint ، لكن غياب التوثيق والتبنّي الرسمي يبرز الحاجة الملحة لدعم مؤسسي يراعي خصوصية اللغة العربية ولهجاتها المتنوعة. كما تتجاوز الأدوات الذكية من مجرد نسخ النصوص وتحليلها، لتشمل تطبيقات تساعد الباحثين في إعداد أسئلة متعمقة تستند إلى تحليل المقابلات السابقة، مما يثري الحوار ويمنحه مرونة أكبر. وهناك تقنيات متقدمة قادرة على تحليل نبرة صوت الضيف لاكتشاف مشاعره وانفعالاته، وهو ما يوفر فرصة لفهم أعمق للذاكرة الشفوية وأبعادها الإنسانية. ومع ذلك، فإن هذه الأدوات، رغم تقدمها، من الضروري أن يقوم باحث أو مؤرخ مختص بمراجعة النصوص والنتائج التي تولدها هذه الأدوات بدقة، ليصحح الأخطاء المحتملة ويضمن أن القصص والشهادات تحتفظ بحساسيتها الثقافية والإنسانية، خصوصًا في الحالات التي تتطلب تعاملاً دقيقًا مع تفاصيل الحياة الشخصية والتاريخية. إذاً، التقنية الحديثة ليست بديلاً للإنسان في التاريخ الشفوي، لكنها أداة لا غنى عنها في عصرنا الحالي، تساعدنا في التعامل مع الكم الهائل من المواد الصوتية وتوفير الوقت في التنظيم والتحليل. استخدامها بوعي ومنهجية يرفع من جودة العمل ويعطي المؤرخ فرصة للتركيز على جوهر القصة، فهم التفاصيل، والاستماع بعمق للذاكرة البشرية. لذلك، أقترح أن تعتمد المؤسسات والمراكز التاريخية في منطقتنا استراتيجيات وسياسات واضحة لتبني هذه الحلول الرقمية، مع وضع ضوابط أخلاقية صارمة تضمن مراجعة بشرية دقيقة للمواد التي يتم جمعها وتوثيقها، بما يحفظ مصداقيتها ويصون خصوصية الأفراد، ليظل التاريخ الشفوي صادقًا وأصيلًا لخدمة الأجيال القادمة.