العمر

(عمري إلى التسعين يركض مسرعا والنفس ثابتة على العشرين) هذا ما قاله الشاعر أحمد الصافي النجفي، فهل هو أمل من آمال أحلام اليقظة، أم شيء آخر؟ لا، ليس أملا؛ لأن الأمل يتعلق بالمستقبل، بشيء سيكون أو لا يكون، وهذا معاش الآن( النفس ثابتة) يترقرق فيها الصبا، ويتدفق فيها لهب الشباب، بل ونزقه، وإذن هو شعور ذاتي ينبع عند بعض الأفراد نبعا تلقائيا لحبّهم للحياة. والصافي في مقدمة القافلة، فهو القائل (ليس عيناي لي بكافيتين / فوق عيني أبتغي ألف عين) حيث نرى احتشاد حب الحياة في قلب هذا الشاعر الناسك، فهو يريد رؤية أبعاد الوجود كلها دفعة واحدة. الأدب العربي، في شعره ونثره، مليء بالأنين من الشيب؛ لا لذاته، بل لأنه سبب الحرمان من أشياء عدة، نعرف أحدها من عمر بن أبي ربيعة رأين الغواني الشيب لاح بعارضي فأعرضن عني بالخدود النواضر وكن إذا أبصرنني أو سمعن بي سعين فرقّعن الكوى بالمحاجر أما ابن الرومي فقد عبر عن نشوة تلقائية يسببها تذكّر الوطن: وطن صحبت به الشبيبة والصبا ولبست ثوب العيش وهو جديد فإذا تمثل في الضمير رأيته وعليه أغصان الشباب تميد أما عمنا فيقف موقفا مختلفا عن أي شاعر آخر، فهو يقول: خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا لغادرت شيبي موجع القلب باكيا لك أن تشك شكا يقرب من اليقين ، فيما قال، ولكنك لا تستطيع إلا الاهتزاز إعجابا وترحيبا بمثل هذه الألفة العصية على الانفصام. كل حي يحب البقاء، ولكن هناك فرقا بين مجرد البقاء وبين الحياة. البقاء أيام تتوالى، لا يخرج منها الفرد عن اهتماماته المعيشية، أما الحياة فهي التي تفتح فيها الأشياء باطنها للفرد، وهو اكتشاف يسبب الدهشة ومن ثم النشوة، ولا يتمتع به إلا فئات صغيرة في المجتمع مثل الشعراء والفلاسفة والمنتشون بشيء ما، ماديا كان أو معنويا، مثل شعور كيلوبترا بجمالها، وبأنها ملكة، وقد عبر شوقي عن هذا على لسانها: وعلاك ما أدع الحياة جبانة أو ضيق ذرع أو قطيعة قالي إني انتفعت بعبقري جمالها وتمتعت من عبقري جمالي يومي بأيام لكثرة ما مشت فيه الحياة وليلتي بليالي