رواية «غراميات شارع الأعشى»..

فتح مغاليق الأسرار النسوية !

للمكان حياة نابضة لا يستشعر بحياته وأحاديثه وإيماءته إلا من عاش في بيئته، إذ يتحول الفعل الروائي البسيط إلى عوالم متشعبة لا يستطيع القارئ للرواية أن يفهم ذلك التشعب والمبالغة في التخفي إلا ابن المكان الذي يعرف تماما ما تحدثه العادات والتقاليد من وجوب الحذر وإتباع الطرق الملتوية من أجل إحداث فعل قد لا يكون ذا أهمية في مكان آخر. أحسست بهذا وأنا أدلف إلى شارع الأعشى الذي أضافت له الروائية بدرية البشر تلك الغراميات مستحضرة من خلالها ماضيا لأحد شوارع الرياض جعلتنا نسير فيه حتى وصلنا إلى الحاضر. كانت خفقة المكان هي السيدة الحاضرة –منذ البدء- لكل تلك العوالم التي استحضرتها الروائية بدرية البشر، فمنذ الاستفتاح الأول: - اصعدا إلى السطح وافرشا الفرش. قالت لنا أمي بعد الغروب، وهي تنهي صلاتها. وسوف تغيب جماليات هذه الافتتاحية عمن لم يعش في فضاء مدينة الرياض وليالي السموم الحارقة التي تجتاح الأهالي، فيلوذون بسطوح المنازل برش أرضيتها الإسمنتية وبسط الفرش من أول الليل عل الهواء الساخن يتم ترويضه بتلك المياه المدلوقة، فالسطح الذي يهرب إليه الأهالي ليحظوا بقليل من البرودة هو نفس المكان الذي تحلق منه أحلام الصبايا نحو عالم مغاير، يحلقن منه كما يحلق الحمام أو تخفق طائرة ورقية خارج تلك البيوت المتلاحمة التي تتبادل أسرارها بصمت مع الخشية من شيوعها. وقد أرادت عزيزة (بطلة الرواية) أن تسترجع أيام البراءة الاولى ليست براءة الناس فحسب بل براءة المكان أيضا قبل أن تجتث التغيرات المادية الانسان والمكان معا.. واسترجاع البراءة الأولى للمكان وقاطنيه هي إدانة صارخة لما أحدثه التغير من تشظي وجودي إذ يمكن للقارئ ملء بياض النص هنا بما يمتلكه من معرفة حياتية لكل المتغيرات التي اجتاحت المكان وكان الاهتمام فيها قائما على بناء العمران وإغفال بناء الانسان. وعند التقاء الانسان الهش بالماديادت المتنفذة القادرة لم يكن بالإمكان صياغة حياة طبيعية مما أدى إلى خلق افتراق حاد خلق تشوهات سلوكية عطلت وعي الانسان ومقدرته على الفرز ما بين ما هو حقيقي وماهوا متخيل أي أن المتغير لم يتواز مع الحياة الطبيعية التي تتناسب مع معطيات وعي الانسان . والمتغير المادي لم يقابله تغير معرفي ثقافي فكان أداة تهشيم أظهره السرد من خلال بناء أو صياغة عوالم تكون المخيلة موقعها لدى أبطال الرواية، وهما عالمان متخيلان لا يلتقيان إلا في المتخيل، متخيل ماتبثه الأفلام المصرية، ومتخيل الأحلام الهاربة من كوة الأسطح التي تستقبل الأجساد الهاربة من ليالي السموم . ومن ذلك السطح الصغير الذي كان الناس يهربون إليه من ليالي السموم، كانت عزيزة وأخواتها ينفرن أحلامهن من كوة السطح بحثا عن حياة تزهر فيها قلوبهن الصغيرة. حتى اختيار السطح (كفضاء روائي) لممارسة الفتيات بعض شقاواتهن هو استعارة لحياة طارئة سرعان ما تزول إما بطلوع الصبح أو بتغير الفصل المناخي. واختيار الروائية لفعل بسيط وهو (رش السطح) هو الخيط الحريري الرفيع الجارح والذي غزلت به قماشة سردها لغراميات شارع الأعشى فاسترجاع تلك الذكرى الصغيرة هو التذكير بقسوة المكان، قسوته المناخية والحياتية معا. ولتأكيد هذه القسوة فقد لجأت الروائية لاستحضار كل المتغيرات التي مرت بالمجتمع وقوضت بنيته النفسية حتى سكنه الخوف من كل جديد، فأفرز كائنات هشة، تركض خلف أوهامها المبنية على مشاهدة التلفاز والحياة من خلاله (أي أن الحياة تتحول إلى مشاهدات وأحلام تتمنى الفتيات تحقيقها في الواقع) وهو الالتباس الذي عاشته عزيزة مع الطبيب المصري والذي ينتصر فيه الواقع على المتخيل بزواج عزيزة من الرجل الخمسيني (ورقيا). حتى هذه التضحية أسقطت المتخيل حين واجهت عزيزة حبيبها أحمد المصري والذي انتقل من عالمه المتسامح إلى عالمها المتزمت إلا أن استحضار هذه النهاية هو التأكيد على أن الحياة غدت مشاهدات وخيالات اختلطت في المخيلة وأحدثت نزعات نفسية بعيدة كل البعد عن المعاش. وتشير الروائية إلى المتغير الذي فتح البيوت المغلقة من خلال دخول الهاتف، تلك الأداة التي جعلت القلوب ترتعد كون التواصل المحظور بين (الجنسين) قد وقع . وحضور كل شخصيات الرواية هو حضور المتأثر بالمتغيرات الفعلية أو اللفظية من غير الاستعداد المعرفي لاستقبالها مما أحدث تخبط لكثير من شخصيات الروائية قد يكون أهمها إبراهيم الذي ذهب إلى موقع المتخيل فلم يرق له افتراق واقعه وعدم مقدرته المضي فيه وهي الرحلة العكسية التي حدثت للطبيب المصري أحمد (حبيب عزيزة) فهو أيضا عاش المتخيل وعندما صدم بما فعلته عزيزة كان اصطدام عالمين لم يستوعبا بعضهما، وافترق فيهما العالمان والذي عبرت عنه عزيزة في الفصل ما قبل الأخير حين تكتشف أن من أحبته كان دميما (والدمامة هنا ليس في الشخص بل في فقدان العالم المتخيل). حتى إن وضحى التي أرادت الروائية أن تظهرها كشخصية قوية تحدث تغيرا في مفهوم عمل المرأة خضعت لسلوك المتأثر السلبي ولم تنجح في مواصلة نضالها من أجل حقوقها بعيدا عن المساومات . ومزنة وعطوى اللتان أرادتا كسر الاعراف تم كسرهما بالنبذ لأن المتخيل لم يتقابل ويتصارع مع المعاش وعندما اقترفتاه لم يكن يساندهما الواقع، فالحياة برمتها متخيلة . ولتأكيد انتصار الواقع المهشم المحادثة الأخيرة (في الفصل الأخير) ما بين الجازي وأبو فهد (زوج عزيزة الخمسيني) إذ تم تثبيت أن الخيال هو الذي يقود الأفراد إلى حتفهم وهم لا يعرفون الفرق المهول ما بين الحالتين ومع ذلك ينتشون نشوة من ترفّ روحه تحت شفرة حادة. ولم تكن حادثة جهيمان إلا افرازاً للواقع الذي ظل يسري في المجتمع كواقع متخلف لم يتأثر بالمتغيرات بل انسحب للخلف وارتد كخصم يريد التخلص من كل المعطيات الحديثة وكونه لم يهزم لأن المجتمع كان يعيش في المتخيل وليس في الواقع حتى إن دعوة جهيمان استطاعت أن تحتل موقع المتخيل وتتحول إلى أفراد مجاهدين في أفغانستان والشيشان بحثا عن مجد لا يسعفه الواقع المادي لتحقيقه. إن رواية «غراميات شارع الأعشى» استحضار للمتناقضات التي عبرت المجتمع وكان المهزوم فيها ذلك الانسان الذي ترك هشا مهيض المعرفة في مواجهة تغيرات جذرية لم يستطع أن يستوعبها ثقافيا فكانت الحياة متشظية حقا. * كتبت هذه القراءة عقب صدور الرواية ودخولها القائمة الطويلة للبوكر، ونستعيدها هنا بمناسبة تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني..