عن الثقافة واكتسابها وفتنتها!.

الثقافة في أبسط تعريف لها بالنسبة لي هي المعارف والعلوم التي يكتسبها الفرد في حياته،وأنا اكتسبت هذه المعارف والعلوم من الأصدقاء قبل الكتب، ومن الجلسات الخاصة قبل المجالس الأدبية، والصوالين الثقافية، والأندية الأدبية . كان قدري أن اهتديت في بداية عملي معلمًا إلى أصدقاء يكتبون الشعر والقصة، ويتداولون الكتب،ويزورون معارضها، وينتسبون لمؤسسات ثقافية .يجتمعون في الليل تحت ضوء القمر، في فضاء مفتوح، تلفحنا نسائم الليل، وتعطّرنا روائح الأشجار،يقرؤون الشعر، ويتحدثون في قضايا الأدب والثقافة،يتبادلون المقالات المنشورة في الجرائد،والمجلات،ويتهادون الكتب المطبوعة في لبنان، ومصر، وسوريا والمغرب! من هذه الحياة العامرة بالمعارف والعلوم تحوّلت حياتي من قارئ للرياضة،وكتّابها ومتابع لأدقّ تفاصيلها إلى قارئ في كتب الأدب ( القصة، الرواية، الشعر )! في هذه الفترة الزمنية كنت مفتونًا بالقراءة، أقرأ بنهم، وأتابع جديد الأدب بشغف، وأحضر مجالس الأدب (على قلتها) وإذا سافرت،كان اهتمامي الأول زيارة مكتبة تجارية،واقتناء كتاب،وحضور جلسة أدبية، أو عرض مسرحي! تعلّقت بالقراءة، وتحوّلت مع الوقت من مجرد قارئ إلى كاتب،أعيد إنتاج ما أقرأ، فكتبت القصّة، والمقالة الاجتماعية، والمقالة الأدبية النقدية . بنيت مكتبتي بما أحب وأكره،وأتيحت لي العديد من الفرص في الكتابة، فنشرت قصصي ومقالاتي في صحف الجزيرة والرياض والمدينة والبلاد دون وسيط، وحظيتُ بفرصة الكتابة في صحيفة الوطن السعودية،الصحيفة التي أحدثت ثورة كبيرة في الرأي، والثقافة، كتبت زاوية أسبوعية ثقافية نقدية في صحيفة الوطن،من عام 2002م إلى نهاية عام 2009م . في وقت كانت الكتابة في الوطن حلم الكثيرين، وبغيتهم! انتسبت إلى عضوية نادي أبها الأدبي،وأنشأت فيه مع مجموعة من الأصدقاء الأدباء جماعة السرد،وأدخلنَا الأستاذ الراحل محمد ابن حميد إلى أروقة النادي،ومكّننا من الحضور، والمشاركة، وطبع لنا الكتب،قدّمنا إلى منبر النادي، وتحمّل نقدنا،وكتاباتنا، واحتوى حماستنا،حظيتُ ( شخصيًا ) منه باهتمام كبير، فكنت عضوًا في اللجنة الثقافية لملتقى أبها،وشرّفني بالمشاركة في العديد من أمسيات النادي مديرًا للجلسات،ومتحدثًا أيضًا! كما شرّفني الأستاذ أنور آل خليل بالمشاركة في العديد من فعاليات النادي،ولجان التحكيم في الأدب،وحظيت منه بتشريفي بالمشاركة في إدارة جلسة من جلسات ملتقى المثقفين الخليجيين التي كان لنادي أبها الأدبي شرف استضافتها في منطقة عسير! كلّ هذا وأنا مازلتُ مفتونًا بالثقافة والأدب! أما فتنة الثقافة بمعناها الأشمل،والأوسع،فقد كانت بدايتها الفعلية من منتديات الإنترنت،وكان لنا في عسير منصتان عاليتان : شبكة الألمعي التي كان جلّ المنتسبين لها من أبناء رجال ألمع المقيمين فيها،والساكنين خارجها،وشرفات عسير على مستوى منطقة عسير،وكان جلّ المنتسبين إلى هذا الموقع من أبناء المنطقة،من الأدباء الشباب،ومن المثقفين الكبار أيضًا،فيما كان موقع « جسد الثقافة « منصتي الأدبية الوطنيّة الكبرى،ألتقي فيه بأبرز أدباء الوطن،وكتابه! كانت هذه المنتديات بالنسبة لنا اختبارًا فعليًا لأدبنا، وحماستنا، وقدرتنا على الاحتمال،تدرّبتُ في هذه المنتديات على الكتابة المتجردة،والصادمة،والناسفة لكثير من القناعات التي آمنت بها مع أصدقائي،والقريبين مني،ومع محيطي الصغير، وربما كان غيري مثلي! علمتني هذه المنتديات أنّ كتاباتي ليست معصومة من الزلل، ولا محروسة من الضعف، والخطأ، وأنها قابلة للنقد،لذلك كنت أسعد ببعض الآراء،وأصدم من بعضها، لأنّ من يكتب عنّا في تلك المنتديات كان مستترًا ومقنّعًا خلف اسم مستعار، وما أكثر الأقنعة في تلك الفترة الزمنيّة! لم نكن نملك تغيير رأي أحد،ولا حرمانه من المشاركة، ولا حتى المطالبة بمحاسبته إن تجاوز حدود الأدب واللباقة، كان الحوار، والنقاش، والصبر، والاحتمال أسلحتنا الوحيدة، أو الانسحاب كما فعل كثيرون! لم أكن وحيدًا،ولا واحدًا كما يقال،كنت أكتب فكرتي التي أقتنع بها، وأشارك الآخرين في أفكارهم، وكتاباتهم،إمّا بالتأييد،والرفض،والاعتراض،كنت ومازلت محبًا للحوار، والتفاعل،ومن أجل ما أحبّ لا يجذبني الكتاب والمثقفون اليوم في شبكات التواصل الاجتماعي الذين يكتبون لأنفسهم، ولا يتفاعلون مع ما يكتبه الآخرون،وأفرّ منهم ومن حساباتهم فرار الخائف الوجل! أكره الغرور،وأنبذ الأستاذية،ولا تعجبني المجاملات المفرطة،أقدر كثيرًا الأديب، والمثقف الذي يأخذ، ويعطي،يرسل، ويستقبل،يثني، وينتقد،يُعلّم، ويتعلّم، هكذا كنت، وهكذا أحبّ أن أكون! أنا هنا أعيد الفضل بعد الله في احتمال فتنة الثقافة إلى المنتديات التي علّمتنا الكثير، وإليها أنسب الفضل في احتمال الأذى، وتجاوز الضعف الإنساني الذي يتمسّك بكلمات المدح والإطراء أكثر من تمسكه بالنقد! لم أعش محصّنًا من النقد،ولا أحبّ الكتّاب والمثقفين الذين يغضبون منه، ويتوجعون،بحجة أنهم يرون أنفسهم رموزًا، أو كبارًا،أو لأنّ تجاربهم في الكتابة موغلة في القدم! ادعيت ( من باب الاستفزاز ) في نهاية عام 2007م تقريبًا في موقع شبكة الألمعي أنني أملك ( 20 ) معرّفًا، أصول بها، وأجول،صدّق هذا الادعاء كثير ممّن كنت أختلف معهم حول الأدب،والثقافة،وأشياء أخرى،فتحوّل هذا الادعاء إلى مطالب بالمحاسبة،والمساءلة،والاستجواب، بل وصل الغيض ببعضهم ( سامحهم الله ) إلى المطالبة بحرماني من الإيفاد إلى روسيا الاتحادية التي أوفدت إليها في عام 2008م! وأنا الليلة وبعد خمسة عشر عامًا أعترف أنني لم أكن قادرًا على امتلاك كلّ هذه المعرفات، فلا خدمة الإنترنت في رجال ألمع وقتها كانت تمكّنني من هذا، ولا الطاقات، والملكات في وقتها كانت تسعفني في تدوير هذه المعرفات، والعمل بها، لكنها مرحلة كانت الثقافة فيها فتنة، وطغيان الجدل، وشغف الاختلاف بالنسبة لي وللآخرين مزيّة،لم أكن أحمل فيها ( كما أعلم ) حسدًا،ولا ضغينة على أحد! أما شرفات عسير فكانت بوابة أخرى انتقلتُ معها من المكان الصغير ( ألمع ) إلى المكان الأوسع قليلًا ( عسير ) كتبنا في الأدب، والنقد، تجادلنا كثيرًا،اختلفنا، واتفقنا،تخاصمنا، وتقاطعنا، وتحوّلت الكتابة في أحايين كثيرة من معارك أدبية إلى تصفية لحسابات أدبية ثقافية، كلّ واحد منّا يريد أن يكون الأميز، والأبرز، والأفضل ومعه جيش من المحبين،وخلف ظهره جيش من الناقمين،والكارهين! إلاّ أنّ هذا الموقع لا يُنسى، لأننا تدرّبنا فيه كثيرًا على الكتابة الجيدة، واحتمال الأذى وتقبل المختلف ولو كان عدوًا في الكتابة،والفكرة! تشبّعت كثيرًا بالأدب، والكتابة، وتحوّلت مع الوقت من كاتب إلى فاعل ثقافي، ساهمت مع آخرين في تأسيس منتدى العميرة في رجال ألمع، ولعلّ أكبر ما تحقّق لنا في هذا المنتدى أننا خرجنا به من بيت القاضي الذي كان محدودًا بالمريدين إلى فضاء عام، في استراحة عامة،على الشارع العام،تعلن فعاليات هذا المنتدى لعامة الناس قبل خاصتهم،ويمكن لأيّ مهتمّ الحضور والمشاركة،وأسست مع أصدقاء آخرين مجلس ألمع الثقافي، وتقدمت لجمعية الثقافة والفنون في أبها بفكرة إنشاء مجموعة حرف،بمساعدة أصدقاء الكتاب والهمّ،ولولا سرقة الفكرة وأحلام المغرمين لكنّا اليوم عصبة الكتاب، نقرأ ونمارس شغفنا في القراءة، والنقد، وبناء العقول! عملت في أربع سنوات (كنت خلالها موفدًا للتدريس في روسيا الاتحادية) على إصدار مجلة أدبية ثقافية تصدر عن المدارس السعودية في موسكو باللغة العربية (صدر منها أربعة أعداد) تُعْنى بالأدب والثقافة، كتب فيها كتاب سعوديون، وموفدون في الخارج،واستضفنا في هذه الأعداد الأربعة شخصيات عربية مشهورة في روسيا الاتحادية،ومستعربين من الروس. أنشأت داخل المدارس منتدى ثقافيًا نستضيف فيه شخصيات أدبية وثقافية عربية تعيش في روسيا، نعرّف بها طلاب المدارس وطالباتها! دخلت عالم الصحافة الثقافية، فكنت مجتهدًا كما أظنّ،أنصفت كثيرًا من أدباء ومثقفين كبار خارج منطقة عسير،وفي العالم العربي،وأتيحت لي في بلاط صاحبة الجلالة فرصة الكتابة في موضوعات كثيرة،حاورت أدباء كثيرين،تنقلت بين صحيفة الشرق ومجلة اليمامة وعكاظ، صدر لي في هذا ثلاثة كتب ومازال الرابع ينتظر وقت صدوره . مازلتُ شغوفًا بالأدب، ومفتونًا بالثقافة، ومؤمنًا بالنقد، ومحبًا، وباحثًا عن المناوشات الثقافية، والمعارك الأدبية! لذلك كتبتُ كتابي « فتنة الثقافة « ولم أندم عليه، وها أنا اليوم أسكن في ظلال الكتب التي يهديها لي الأصدقاء الأدباء،وأشتري منها ما أنا بحاجة إليه،لأتقي بها الجمود،والجحود،ونكران الجميل! *نص المحاضرة التي قدمها الكاتب في مقهى «نواة» ضمن مبادرة الشريك الأدبي في عسير.