
تعد الواقعية السحرية أحد أهم الأنواع الأدبية وأكثرها تأثيرا في فكر ومخيلة القارئ. عندما نقرأ هذا المصطلح أول ما يتبادر إلى الذهن هو أدب أمريكا اللاتينية. ارتبطت الواقعية السحرية لدينا بغابرييل جارسيا ماركيز وإيزابيل الليندي وبورخيس وغيرهم من أدباء تلك القارة. حيث امتزجت في أعمالهم عناصر السحر والخيال والواقع، وتداخلت الحقب الزمنية، ومنحوا القارئ رحلات مبهرة في عالم الأساطير والقصص الشعبية بشخصياتها وطقوسها الخيالية. في كتاب بعنوان “نظريات الواقعية السحرية” ((Theories of Magical Realism، يقول الباحث في الأدب اللاتيني إريك فريسكاس Erik Camayd-Freixas بأن الميزة الخاصة للواقعية السحرية والتي يتفق عليها النقاد هي أنها “تجعل الأحداث غير العادية تبدو عادية، والعكس صحيح. يعتمد ذلك على وجهة نظر الراوي غير التقليدية، وعلى استخدام تقنيات تجعل الأحداث غير المعقولة منطقيًا تبدو طبيعية، من خلال الوصف المفصل والدقيق ورواية الأحداث بأسلوب مباشر.” لم تبق الواقعية السحرية محصورة في قارتها القصية، بل طافت بأرواحها وطقوسها لتجوب العالم. فنجد بعض سماتها في الأدب الآسيوي والأفريقي، في أعمال اشتركت مع سحر أميركا اللاتينية بابتعادها عن العقلانية الغربية واستلهام قصصها من الأدب الشعبي والأساطير المحلية مع صوت مقاوم للإرث الاستعماري في سبيل إثبات الهوية. في هذا المقال أحاول تسليط الضوء على الواقعية السحرية في الأدب الإفريقي، التي تشترك مع نظيرتها اللاتينية في مزجها الواقع بالسحر، لكنها تميزت عنه بتركيزها الأكبر على الموروث القبلي وقصص الأجداد وتاريخهم الشفهي، مع مشاهد للحياة في القارة السمراء في فترة ما بعد الاستعمار. بداية، أقصد بالأدب الأفريقي هنا أدب شعوب جنوب الصحراء إلى المحيط. مع أن الدكتور علي شلش في كتابه (الأدب الافريقي) الصادر ضمن سلسة عالم المعرفة يشير إلى أن هذا الوصف غير دقيق، لأن “أدب أي قارة ينبغي أن يشمل أدب هذه القارة كلها كقولنا: الأدب الأوربي والأدب الأسيوي والأدب الأمريكي الشمالي والأدب الأمريكي الجنوبي والأدب الأسترالي وهكذا.” لكني اخترت هذا النطاق تحديدا لأن الواقعية السحرية تظهر فيه بشكل أوضح وأيضا لأنه لم ينل الاهتمام الكافي من القارئ والناشر العربي. فأثناء بحثي وقراءاتي وجدت الكثير من الأعمال التي ينطبق عليها هذا التصنيف لكنها لم تترجم إلى العربية للأسف. طريق الجوع: يمكن القول بأن الواقعية السحرية تجلت في هذا العمل برؤى وخيالات بطل الرواية “ازارو” الممتزجة بالواقع. ينتقل بين عوالم مختلفة، يصعب فيها الفصل بين الحقيقة والوهم، متصلا بعالم الأرواح في ذات الوقت الذي يخوض فيه واقعه بكل تفاصيله ويقاسي مشاكل الحياة اليومية في فترة الاضطرابات السياسية في نيجيريا ما بعد الاستعمار. “سارت خلفي بصعوبة وهي تعرج ولم تكن هي الوحيدة التي تبعتني وإنما الأرواح أيضًا؛ حيث أمسكت إحداها بذراعها المنفصل ولوحت به في الهواء مثل الهراوة المشوهة، وحين هربت إلى الممرات كنت أسمع خطواتهم الثقيلة خلفي وكانوا يصيحون باسمي: “أزا رو، أزا رو”. تردد صدى اسمي في كل المنطقة بعد أن رددته الأرواح بقوة كبيرة، تغير معها ضوء السماء التي تلبدت بالغيوم الصفراء، وحطت بجواري فبدأ الأمر وكأنني دخلت إلى عالم آخر” يُعدّ “بن أوكري” كاتب رواية (طريق الجوع) أحد أبرز أصوات الواقعية السحرية الحديثة، واستطاع توظيفها بأسلوب مميز يجمع بين سحر أفريقيا والفلسفة الروحية العميقة، حازت روايته هذه على جائزة بوكر البريطانية في العام 1991م. ومنذ صدورها، حققت صدى هائلا وتأثيرا واسعا. استوحت فرقة Radiohead أغنيتها الشهيرة Street Spirit منها وكانت مصدر إلهام للعديد من الفنانين والموسيقيين والمسرحيين. أرض تسير نائمة: العمل الآخر الذي يتسم ببعض سمات الواقعية السحرية هو (أرض تسير نائمة) للروائي الموزمبيقي “ميا كوتو”. هذا العمل رواية داخل رواية. الرواية الأولى هي ما يرويه كاتب العمل عن بطلَي القصة الصبي مودينيغا والعجوز تواهير اللذَين يهربان للاحتماء من الحرب الأهلية التي تلت استقلال موزمبيق. والرواية الأخرى نقرأها مكتوبة في دفاتر وجداها في حقيبة بجانب إحدى الجثث، أخذها الصبي مودينيغا بغرض استخدامها لإشعال النار. لكنها تصبح تسليتهما الليلية، حيث يقرأ الصبي قصص كيندزو على العجوز تواهير في رحلتهما للخلاص. “الحرب كوبرا تلدغنا بأنيابنا نحن. ولقد سرى سُمُّها إلى أنهار روحنا جميعًا. فما عُدنا نخرج نهارًا، ولا عُدنا نحلم ليلًا. إنَّما الحلم عين الحياة، ونحن قد صرنا من العميان.” قيل عن هذه الرواية أنها “ألف ليلة وليلة الإفريقية”، بما فيها من شخصيات وحكايات غرائبية وقد تمت ترجمتها من البرتغالية إلى العربية بواسطة دار الآداب. وبالمناسبة، ميا كوتو روائي أفريقي من أصول بيضاء، موزمبيقي الهوية، استطاع أن يظهر ذلك في أعماله التي توثق أزمنة الحرب وتُحاكم تبعاتها. شريب نبيذ النخيل تُرجمت رواية (شرّيب نبيذ النخيل) للروائي النيجيري “أموس توتولا” للعربية في نسخة لم أستطع الحصول عليها بسهولة، وأعترف أنني اضطررت لقراءتها من النسخة الرقمية الإنجليزية. صدرت في العام 1952م، وهي خير من يمثل الأدب الشعبي الأفريقي ويعكس تقاليده الشفوية. يُظهِر فيها “توتولا” هوية عرقية “اليوروبا” التي ينتمي إليها، معتمدا على السرد بطريقة سريالية ممزوجة بروح الفكاهة، عن بطل يطوف في أدغال منطقته المليئة بالأرواح والأشباح. تدور أحداث القصة حول شاب هو أكبر إخوته الثمانية، مولع بشرب نبيذ النخيل لدرجة أن والده خصص له ساقٍ خاص لاستخراج المشروب وتعتيقه بشكل يومي من مزرعة النخيل الشاسعة. يموت الساقي في حادث أثناء عمله ويشعر بطلنا بالضياع، لكنه يتذكر أسطورة أسلافه التي تقول بأن الموتى لا ينتقلون للسماء مباشرة، بل يبقون في مكان ما لفترة من الزمن قبل صعود أرواحهم، فينطلق في رحلة البحث عن هذا المكان لاستعادة ساقيه من عالم الموتى. وهذه المغامرة هي لب العمل حيث يتنقل في الأدغال وبين الأحراش ويقابل أشخاصا وأرواحا ويعيش قصصا مليئة بالغرائبية. مثلا، من اللحظات السريالية التي تحمل معان رمزية تجسد طبيعة الواقعية السحرية، هي لحظة بيع البطل وزوجته موتهم وخوفهم للغرباء، ليصبحا محصنين ضد الموت والخوف! ختاما، عندما أربط أدب القارة الأفريقية الغني بالأساطير والحكايات الشعبية المستلهمة من إرث الأجداد بالواقعية السحرية، فذلك لأن العديد من كتاب هذا الأدب أبدعوا في دمجهم السلس بين العوالم الروحية والمادية وتحدوا النمط الغربي في الأدب ووظّفوا هذه القصص كوسيلة لنقد التاريخ الاستعماري، وما خلّفه من آثار اقتصادية واجتماعية وحروب أهلية. هذه الروائع وغيرها مما لم يترجم للعربية، شواهد على غنى الأدب الإفريقي، وجسرا ثقافيا ينتظر خطى القراء لتطرقه وتكتشف عوالمه.