حرية الفنان.

في كتابه ( حرية الفنان ) يتحدث حسن سليمان عن عدة جوانب مهمة تتعلق بالفنان وحريته تجاه ذاته ، مجتمعه وإنتاجه الفني في أواخر القرن العشرين . ولطالما كانت هذه القضية - حرية الفنان - قضية زئبقية - كما يصفها - لا يمكن الإمساك بها ... و يرجع ذلك إلى سببين أولهما : مقومات شخصية الفنان ، والآخر ما يحيط هذه الشخصية من تصارع قوى في المجتمع. لقد كان فصل ( عن حرية الفنان ) من أهم فصول الكتاب التي قرأتها ، ذلك أنه يضم الكثير من الآراء المهمة و النظريات التي تفسر الكثير عن الفنان وحريته المطلقة من عدة أوجهٍ مختلفة. أعتقد أنه لا يخفى علينا جميعًا مدى صعوبة تأقلم الفنان مع أوضاع مجتمعه وما يحدث فيه من حوادث قد لا ترضيه ، هذه المواجهة قد تحد بطريقةٍ ما من انطلاقته الفنية ، وذلك إن لم يدرك إدراكًا واعيًا عميقًا لطبيعة هذه الأوضاع ويحدد موقفه منها. وهنا نجد المعنى الكامل لصراع الفنان مع نفسه ومع من حوله بحثًا عن الحقيقة ، و ارتباطها بالمعنى الكبير للحرية. إلا أن أهم سؤالٍ طرحه المؤلف هو: ( كيف يتأتى لنا تحديد مفهوم سليم لحرية الفنان - مفهوم يحمل المرونة والعمق الكافيين - كي ينعم الفنان بالحرية التي ينشدها ؟ ). مثل هذا السؤال حاول الكثير من الكُتاب والفلاسفة من شتى الاتجاهات والعقائد الإجابة عنه ، و بعض النتائج التي توصلوا إليها لا غبار عليها ورغم أنها كانت موضوعية بطريقة صارمة ، إلا أنه من العسير احتوائها لكافة المذاهب. والكثير من هذه النتائج لم يكن في مغزاه الحقيقي سوى تبني لوجهة نظر فلسفية تخدم تيارًا اجتماعيًا معينًا أو نظامًا حاكمًا ... وهنا تكمن الخطورة ، فمن السهل وضع نظريةٍ ما والتدليل على صحتها ... لكن هل يضمن لنا التدليل تطبيعًا سليمًا ؟. إن كل فئةٍ حينما تكون في طريقها إلى السُلطة تجاهد من أجل فرض مفهومها عن الحرية أو على الأصح مفهومها الخاص ، و هو بوجهٍ عام يرمي إلى ربط الجماهير بالحكم ، و بوجهٍ خاص يمس و يتعارض مع موقف الفنان و وجوده كمفكر ... أي بعبارةٍ أوضح وأبسط: مع سيطرة نفوذ طبقةٍ ما في المجتمع ، تأتي حاملةً معها ترجمتها الخاصة لمشكلة الحرية. إن الإحساس بالحرية أمر و ممارستها أمرٌ آخر ، فالفنان يعيش الحرية الحقيقية حين يحقق ذاته كاملةً ، حتى ولو كان داخل قضبانٍ حديدية. تلك الذات التي تنشد الفردانية والتوحد مع فلسفة الجمال. تلك الذات التي يخاف الكثير من المفكرين من أن تتحول إلى الأنانية والانحلال لمجرد أنها وصلت إلى نقطةٍ مهمةٍ في حياة الفنان تحديدًا ، ألا وهي ( إحساسه بحريته الذاتية المطلقة ) ، ولكن هذا الخوف في الحقيقة لا أساس له من الصحة ، بل العكس .. فلا شيء في مقدوره أن يفصل فنانًا حقيقيًا عن الحياة إلا شعوره بأن غيره يقوم بدور الوصاية عليه ... يحدد له إطاره الفكري ... يحدد له علاقاته ووضعه ، وموقفه بالنسبة لمن حوله ... بل وأكثر من ذلك ، يفرض له الشكل الفني الذي يصوغ به مضمونه. وغالبًا مع شعور الفنان بالتسليم بما لا يرضاه ، يتحول من قيمةٍ فعالة إلى قيمةٍ مستهلكة يتحول إلى إنسانٍ كل همه أن يغطي استسلامه لأوضاع فكرية واجتماعية هو غير راضٍ عنها. وقد تتضح هذه التغطية في إدعاءاتٍ و تطلعاتٍ طبقية ، وقد تتخذ صورة عدوانية إزاء مواقفه غيره السلمية. والحقيقة أنه وُجد عبر الفكر الإنساني من أدرك أن حرية الفنان هي حرية مطلقة ومشروطة في آنٍ واحد ... مثل سبينوزا ... لكنه بنى منطقه وفق أسس نظرياته الفلسفية ... فعلى حد قوله: (إن الحرية كظاهرة لا توجد أو تمارس إلا وفق القوانين الموضوعية التي حققت وجودها. فالحرية ليست مجرد قراراتٍ حرة , بل هي تقبل الالتزام الكامل بضرورة وجود المرء مرتبطًا مع الآخرين. إن حرية الإنسان لا تُبنى فقط على السماح للنفس بتحقق رغباتها ، بل تُبنى كذلك على الفهم التام لكل العوامل والظروف التي أوصلتها إلى وضعها وأدت إلى تكوين مقوماتها الذاتية والاجتماعية.) لكن لم يكن في مقدور سبينوزا أن يصل إلى أبعد من ذلك في حل المشكلة ، أو فهمه للحرية كضرورة للالتزام إزاء كل ما يحيط بنشاط الإنسان كطاقة مبدعة ، وعلى الخصوص مشاكل الفن وكل ما يمتُّ إلى عملية الخلق نفسها. إن الفهم الواعي والحقيقي للحرية يجب أن يتضمن التزامًا من نوعٍ ما. وعلى حد قول هيجل : ( حينما تكون الحرية غير مرتبطة والالتزام بلا حرية ، تصبح الأمور مجرد أشياءٍ مجردة ، تركيبة فكرية لا تمتُّ للواقع والحقيقة). إذن فالحرية نسبية ومرتبطة ومشروطة بالالتزام. ومع إحساس المرء الواعي بحريته ، يشعر إلى حدٍ ما بالتزامه على الأقل تجاه حريته هذه ، حرصًا عليها وإبقاءً على تأكيد وجودها مع ما يحيطها من ظروفٍ و ملابسات. لكن هيجل في نفس الوقت حذرنا من أن نقرب مفهوم الحرية والالتزام بطريقة ميكانيكية محضة ، وذكرنا بأن الالتزام يجب ألا ننظر إليه أبدًا على أنه شيء خارجي مفروض علينا ، لأن الحرية في حد ذاتها ليست أكثر من مرادفٍ لالتزامٍ باطنيٍ ينبع من الداخل ، إلتزامٌ حقيقيٌ و أصيل. إن الحرية والالتزام ليسا صنوان ، ننظر إلى كل منهما على حدة ، فالحرية الحقيقية تحتاج معها إلى التزامٍ ينبع من الأعماق. وفقط لا يتحمل المرء فكرة التزامه حينما لا يعي ولا يُقدِّر أبعاد حريته ومسؤوليته إزاء وجود غيره وحريتهم. إن الحرية معناها الحقيقي تساوي وتوازي تقديرًا واعيًا بضرورة التزام المرء إزاء المعنى الكبير لوجوده في الحياة ، وإن لم يشعر المرء بهذا فالأفضل ألا يناقش شيئًا : لاحريته و لاالتزامه.